قبل أيام قلائل.. كانت نبيلة عوض على موعد لحضور حفل زفاف في منطقة الشيخ زايد. ولتصل لوجهتها، طلبت سالي (شقيقتها) سيارة من أحد تطبيقات النقل الذكي؛ لتقل نبيلة من التجمع الخامس.

وحرصا من سالي على سلامة شقيقتها، طلبت السيارة من تطبيق أوبر، كونه آمنا وذا سمعة جيدة، كما راعت اختيار سائق ذي تقييم مرتفع.

بالفعل وصل السائق، وركبت الفتاة السيارة، ثم تلقت سالي أول اتصال ذاك اليوم المشؤوم، الذي كان على وشك التحول من يوم مبهج إلى يوم شنيع.

اتصلت الشقيقة بسالي، تخبرها أن السائق يريد أموال الرحلة نقدا، رغم أنه تم إعلامه سلفا، بأن الدفع سيكون من خلال بطاقة الائتمان.

مرت عدة دقائق، ثم تلقت سالي إشعارا من التطبيق ينبهها، أن السائق ألغى الرحلة من تلقاء نفسه.

شعرت سالي بالذعر والخوف بشأن سلامة شقيقتها، وكان قلقها في محله، حيث أن السائق اصطحب شقيقتها إلى مكان مجهول، وتوقف فجأة؛ متعللا بشعوره بالعطش، ثم أخرج سلاحا أبيض محاولا اغتصاب الفتاة.

ولكن الفتاة واجهته بشجاعة بالغه، وأمسكت بالسلاح، وقالت له بحزم “هتقتلني ومش هتلمسني”.

نجحت الفتاة بالهرب، لكن الدماء تنزف من جسدها، وهي تركض في الصحراء. شاهدها سائق شاحنه، وحاول مساعدتها،

تلقت سالي المكالمة الثانية في ذلك اليوم، اتصل بها سائق الشاحنة يخبرها “أختك منهارة” في الصحراء.

سرعان ما بدأت محاولات إنقاذ حياة الفتاة، وتم نقلها للمستشفى، لتظهر لاحقا في النيابة، وهي منهارة نفسيا وجسديا.

قد تبدو القصة مروعة كالتي نشاهدها في الأفلام الأكثر رعبا، لكنها للأسف الشديد مشهد حقيقي، حدث لفتاة مصرية الأسبوع الماضي.

لم تكن الواقعة الأولى من نوعها التي تنطوي على تعرض فتيات للاعتداء من سائقي أوبر.

سبقتها واقعة حبيبة الشماع، التي هزت الرأي العام أيضا، بعد تعرض حبيبة لمحاولة اختطاف من قبل سائق أوبر، كان تحت تأثير المخدرات، مما دفع الفتاة للقفز من السيارة المسرعة، ما أدى لإصابتها بنزيف في المخ، نجت حبيبة من الاغتصاب، لكنها ماتت متأثرة بإصابتها.

جرائم سائقي أوبر البشعة، ليست معزولة عن مسئولية الشركة، فتلك الاعتداءات تفضح سياسات شركة أوبر، التي تستهتر بشأن حماية سلامة الفتيات، وتتغاضى عن محاسبة المجرمين العاملين معها.

كما أن تلك الوقائع المروعة تكشف عن واقع اجتماعي محفوف بالمخاطر، تعيشه النساء المصريات خلال تجاربهن مع المواصلات، والتنقل اليومي في المساحات العامة.

أوبر والنساء: اعتداءات في الداخل والخارج

اعتداء سائقي أوبر على النساء، ليست ظاهرة خاصة بمصر، بل هي أزمة مستشرية عالميا، تتعلق بالشركة بوجه عام.

خلال العام الماضي في الولايات المتحدة، رفعت مئات السيدات دعاوى قضائية ضد أوبر، يتهمن الشركة، بأنها لا تتبع الإجراءات اللازمة لحماية الراكبات من الاعتداءات الجنسية.

هؤلاء السيدات كن قد تعرضن لأشكال متعددة من الاعتداءات، بداية من التحرش الجسدي، واللفظي إلى حالات الخطف والاغتصاب، وقد سبق تقديم دعاوى قضائية من نساء، ضد الشركة نتيجة اعتداءات جنسية متكررة.

وفي سنوات سابقة بالمملكة المتحدة، رفضت سلطات النقل البريطانية تجديد رخصة عمل الشركة لعدة أسباب، من بينها تكرار حالات الاعتداء على النساء مع تجاهل الشركة التحقيق، وإبلاغ السلطات بتلك الوقائع، ولم تحصل الشركة على الرخصة إلا لاحقا، بعد حكم قضائي، نص على أن الشركة عملت على تحسين معايير السلامة.

منذ بدأت التقارير والشكاوى بالظهور حول ازدياد الاعتداءات الجنسية، سعت أوبر للمحافظة على سمعتها وتبييض صورتها، فأدخلت في التطبيق عدة مزايا أمان مثل، زر إنذار، وإمكانية تتبع الرحلة من قبل العائلة أو الأصدقاء، وخاصية تسجيل الفيديو والصوت.

كما اتخذت شركات النقل الذكي في الولايات المتحدة، ومنها أوبر، قرارا بإعلان أسماء السائقين الذين تم إيقافهم على خلفية جرائم الاعتداء الجنسي، ومشاركة بياناتهم بين الشركات، لعدم تعيينهم في الشركات مرة أخرى. بالإضافة إلى إصدار أوبر لتقارير بشأن السلامة توثق الحوادث خلال الرحلات، من بينها الاعتداءات الجنسية. تقرير أوبر الأخير الذي يوثق الفترة 2019 /2020 في الولايات المتحدة رصد 3824 حالة اعتداء جنسي، بينهم حالات اغتصاب. بينما التقرير الذي سبقه الخاص بـ 2017 /2018، رصد 5981 حالة.

ولكن الجدير بالذكر، بأن انخفاض الاعتداءات المرصودة بين التقريرين قد لا يكون انعكاسا، على أن المنصة أصبحت أكثر أمانا، بقدر ما يعبر عن تراجع أعداد الرحلات خلال فترة كورونا. وبشكل عام، برغم جميع تلك الإجراءات، لم تصبح أوبر منصة أكثر أمانا للنساء، فلا تزال تتكرر شكاوى النساء بشأن تعرضهن لاعتداءات جنسية في عدة بلدان حول العالم، فمنذ بداية هذا العام، خلال الشهور الماضية القليلة، ظهرت تقارير وشكاوى ودعاوى قضائية عدة، تتعلق بتعرض النساء للاعتداء الجنسية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.

وربما من المفارقات، أن شكاوى التحرش والاعتداءات طالت بيئة العمل داخل الشركة أيضا.

ففي عام 2017  كتبت سوزان فاولر “الكاتبة ومهندسة البرمجيات السابقة بشركة أوبر”، تدوينه هزت الرأي العام، روت فيها المضايقات والتحرشات التي تعرضت لها من قبل مديرها بالشركة. وعندما ذهبت لإدارة أوبر للشكوى، قالوا لها إن الأداء الوظيفي للمدير مرتفع، ولن يعاقبوه على “خطأ برئ” على حد تعبيرهم، وخيروها بين أن تنتقل لفريق آخر في الشركة، أو تظل في فريقها الحالي، وحذروها أنها إذا اختارت البقاء، فعلى الأرجح سيقدم مديرها تقارير سلبية بشأن أدائها الوظيفي، وإن حدث هذا، لن تعتبره الإدارة انتقاما، لأنهم أعطوها خيار تغيير الفريق.

ورغم أن خبراتها ارتبطت بهذا الفريق، اضطرت فاولر للانتقال إلى فريق آخر، وخلال وجودها في الفريق الجديد، تحدثت مع زميلات أخريات، وتفاجأت بعدد الموظفات اللاتي تعرضن للتحرش من نفس المدير ومديرين آخرين.

ورغم استمرارهن بتقديم الشكاوى، استمرت الإدارة بالتستر على الحوادث، كما حكت فاولر أيضا عن المعاملة التمييزية في العمل ضد النساء داخل أوبر في تقارير الأداء والمكافآت.

عقب فضح تلك الحوادث، تحركت السلطات الفيدرالية بفتح التحقيقات، والتي انتهت باستقالة رئيس مجلس إدارة أوبر، وتغريم الشركة 4.4 ملايين دولار.

عودة إلى مصر.. ركوب المواصلات كضرورة محفوفة بالمخاطر

يبدو أن التستر على الاعتداءات الجنسية، وتجاهل سلامة النساء ممارسات معتادة لشركة أوبر، لكن بجانب مسئولية الشركة، تكشف الجرائم البشعة التي تعرضت لها الفتيات المصريات، إضافة إلى حوادث أخرى قد لا نعلم عنها شيئا، أن ضرورة يومية مثل ركوب المواصلات والتنقل في الأماكن العامة في مصر، تمثل خطوة محفوفة بالمخاطر، تعرض النساء للعنف، وقد تصل للقتل.

فعندما تنوي الفتاة المصرية، التي تمثل الأغلبية العظمى من غير القادرات على شراء سيارة خاصة، الذهاب للعمل أو الدراسة أو للتنزه، سيكون أمامها ثلاثة خيارات. الخيار الأول يتمثل في استخدام أوبر أو وسائل النقل الذكي الأخرى، والذين منذ ظهورهم في السوق المصري، اعتبرتهم النساء أكثر أمانا مقارنة بوسائل المواصلات الأخرى. أما الخيار الثاني هو استخدام التاكسي التقليدي، ولكنه قد يكون أخطر؛ نتيجة لغياب إمكانيات، تتبع السائقين التي توفرها تطبيقات النقل الذكي.

والخيار الأخير، يتمثل في استخدام وسائل النقل الجماعي، العامة مثل المترو والحافلات أو الخاصة مثل الميكروباص، وكلها معروفة بتفشي مختلف أنواع الاعتداءات والتحرش والمضايقات ضد النساء.

وبالنظر إلى تلك الخيارات المحدودة أمام النساء، يتجلى أيضا دور الطبقة الاجتماعية والمستوى الافتصادي.

فالأغلبية العظمى من النساء المصريات مجبرات على استخدام وسائل مواصلات جماعية غير آمنة، ثم عدد أقل من النساء، منتميات لطبقات أفضل ماديا، قادرات على استخدام وسائل النقل الذكي أو التاكسي، وعدد أقل قادرات على تحمل ثمن شراء سيارة خاصة.

وهنا تجدر الإشارة للأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد، وما يصاحبها من تضخم، وما له من آثار مضاعفة على حياة النساء وسلامتهن. فمع تضخم أسعار خدمات النقل الذكي وتكاليف السيارات الخاصة، تصبح تلك الوسائل متاحة لعدد أقل وأقل من النساء، مما يجعل خياراتهن بشأن وسائل النقل أكثر محدودية وضيقا.

فضلا على أن تنقل النساء خلال المشي أو للدراجات ليس بالأمر اليسير، نظرا للأخطار والمضايقات التي يواجهنها، بداية من التحرش اللفظي ووصولا للاعتداءات الجنسية، خاصة خلال الليل.

إضافة إلى أن المدن الكبيرة غير صديقة للمشاة والدراجات، وإن كانت ــ بشكل عام ــ تجربة النساء في المساحات العامة المصرية محفوفة بالمخاطر، أيا كانت الوسيلة المستخدمة للتنقل، فكل وسيلة نقل ترتبط بمخاطرها وتهديداتها الخاصة، فحتى السيارات الخاصة، لن تمنع التحرشات والمضايقات.

هل تُحاسب أوبر؟ وهل هناك أفق لمواصلات آمنة؟

اقتصر رد أوبر على الجرائم الأخيرة بإيقاف السائقين عن العمل، ولكن لم تتحرك الشركة لوضع سياسات، واتخاذ إجراءات ملموسة تحمي سلامة النساء المصريات.

وقال أحد الإعلاميين المعروفين تعقيبا على الحوادث: “هو أوبر ابن مين في مصر”. من المرجح أن تعليق الإعلامي الشهير كان يحمل نوعا من السخرية، فكما هو متعارف عليه في مجتمعنا، كون شخص ما ابن شخصية مهمة، يبيح الإفلات من العقاب.

ولكن أوبر حالة مختلفة- وإن كان لها مسئولين مصريين، ربما لهم نفوذ-  فلا يمكن وضعها في فئة ‘ابن مين في مصر التقليدية، لأنها شركة عالمية ذات تأثير هائل. ورغم اختلاف موضعها عن فئة ‘ابن مين في مصر’، ولكن نفوذها وقوتها المهولتين المستمدتين من إمبراطوريتها الاقتصادية، قد يجعلها تميل إلى الاعتقاد، بأنها بعيدة عن العقاب أيضا.

الشركات العالمية ومتعددة الجنسيات تفضل العمل في الدول النامية؛ نظرا لتساهل الحكومات المحلية معها، وتركها بلا عقاب أو حساب على جرائمها.

فعلى سبيل المثال، شركة أوبر معروفة باستغلال عامليها عالميا، في الدول المتقدمة والنامية. ولكن الاستغلال يتضاعف في الدول النامية، حيث ظهرت تسريبات عام 2022، تكشف تدني أجور سائقي أوبر في دول مثل جنوب إفريقيا والهند، بالإضافة إلى تعريضهم لظروف عمل خطرة وغير آمنة.

ولهذا يمكن اعتبار لامبالاة أوبر بقضية سلامة الفتيات المصريات، رغم تكرار الانتهاكات، قد يؤشر إلى ظنها- وربما تيقنها- أنها فوق المحاسبة.

الحوادث المروعة الأخيرة تؤكد على ضرورة محاسبة أوبر بشكل حازم، ولزوم توقيع أقصى العقوبات على الشركة، لاستهتارها بأمن النساء. فمحاسبة السائقين وحدهم لا تكفي، لأن هؤلاء المجرمين يتمكنون من جرمهم؛ نتيجة تساهل واستهتار الشركة.

تلك الجرائم أيضا تمثل إنذارا بضرورة قيام السلطات المعنية بالسعي؛ لتوفير بيئة أكثر أمانا للنساء في المواصلات المختلفة، وخلال تنقلهن في الشوارع المصرية بشكل عام.