يشكل المجال العام مساحة الحرية التي يمارسها المواطنون، أو يتمتعون بها في حياتهم اليومية، يمكننا القول أن فكرة  المجال العام تهدُف إلى إتاحة ساحة من الحرية، تحترم حقوق الأفراد، وتزيد من قوة المجتمع، لأن الاتصال الذي يحدث في المجال العام يخلو من الإكراه المؤسسي، كما أن الحوار الذي يتم خلاله، يمكن أن يُؤسس لخطاب ديمقراطي، ويشكل الحوار وسيلة للحفاظ على تحقيق التفاهم، وتقريب بين الرؤى والإقناع بضرورة تعديل التصورات الخاطئة، كما تكمن أهمية الحوار في السماح لجميع الأطراف بطرح كل أفكارهم، التواضع واحترام الآخر، الاستماع الجيد وعدم المقاطعة للآخرين، تهيئة المناخ لحوار هادئ.

ويشكل مفهوم المجال العام المساحة التجريدية التي يتناقش من خلالها المواطنون والجماعات المجتمعية المتباينة، ويتجادلون حول مختلف القضايا والاهتمامات العامة، ووفقاً لهذه الرؤية، فإن المجال العام يفترض وجود مناقشات مفتوحة لكل الاهتمامات العامة، التي يمكن من خلالها أن يوظف الجدل المنطقي؛ للتأكد من تحقيق المصالح العامة، فالمجال العام يحث على حرية التعبير والحوار والمناقشة، ويُؤكد على حق المشاركة في صُنع القرار السياسي في المجتمع، ويشجع المهمشين على الانخراط في الحوار العام حول مختلف القضايا والموضوعات، أو بشكل عام ممارسة الأنشطة بحرية والانخراط في المضامين السياسية والاجتماعية بشكل آمن وميسر ومضمون، بل وأيضاً يجب أن يكون محميا.

وإذ كان ذلك هو ما يحتاجه المواطن المصري في ظل ضبابية مسيطرة على الساحات المختلفة، تبعدنا عن تثمين أهمية ودور الحوار المجتمعي، وأهمية جعل مساحة المجال العام في تزايد واتساع مستمر، وقادرة على استيعاب كل الأطياف، وقبول كافة الاختلافات الفكرية والمنهجية، وهذا ما يتوافق مع مفاهيم رئيسية لنمو وتطور المجتمع، في أمة تسعى إلى التواجد في الساحة الدولية بشكل أكثر فاعلية وبصورة أكثر إشراقاً، إذ أنه من البديهي في ظل التطورات العالمية التي تتلاحق بسرعة، أن تكون هناك محاولات لفرض هيمنة فكرية، وتحقيق تواجد لنموذج فكري معين، ولن تستطيع أي دولة مجابهة ذلك الأمر إلا من خلال إثراء لمفهوم الحوار البناء، وتحقيق نموذجي لمفهوم المجال العام.

ولكن لا يمكننا، أن ندعي ذلك أو نطالب به، دونما وجود قوانين تنظم الحقوق والحريات بشكل ديمقراطي، يتناسب مع قيمة تلك الحقوق أو الحريات، بمعنى أن تكون الصياغات التشريعية في إطار كيفية تنظيم ممارسة تلك الحقوق، والحريات على نحو من التساوي والتكافؤ والأمان، وذلك لكون معنى المجال العام ينصرف إلى ذلك  الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يتفاعل فيه الأفراد والجماعات، وفيه يتجسد الفعل الاجتماعي، ويتفاعل الناس من خلال أدوات الاتصال، وعنوانه وغايته الصالح العام. وهو مساحة عامة للتفاعل، تمتد من حدود الدولة إلى دور الفرد في الشأن العام. ويستوعب هذا المجال المؤسسات السياسية غير حكومية، والمؤسسات والمنظمات الأهلية، والجماعات الضاغطة والمؤثرة، والنخب، والكتل الاجتماعية والسياسية والثقافية، والجماعات غير المنظمة؛ كما يشتمل المساحات والفضاءات التي تستوعب التفاعلات المعنية بالشأن العام، من أندية وساحات عامة وطرق وحدائق عامة، وحتى وسائل النقل العامة. في المقابل، فإن المجال الخاص هو المجال الاجتماعي والثقافي الممتد من الفرد إلى العائلة في بعض تعريفاته، وهو يستوعب التفاعلات المرتبطة بالأفراد والعائلات المعنية بالشأن الخاص.

إذ لا تقتصر دراسة القوانين على مضمون النصوص الصادرة عن السلطات التشريعية، وكيفية تفسيرها وتطبيقها والحقوق التي تسعى إلى حمايتها فقط على أهميتها، وإنما تتجه بشكل أعمق نحو مصادر القاعدة القانونية وطبيعتها وآلية تفعيلها. تكتسب هذه الحيثية أهمية كبرى؛ نظراً لكون “مُصدر القاعدة هو حاكم المجتمع”، كما عبر عنه العلامة برنار تييسيه في مؤتمر قانوني عقد في مجلس الشيوخ الفرنسي في العام 2004، ولارتباط تطبيق القاعدة بقوة السلطة وجدارتها. وإن كان هذان الدوران المتعلقان بإصدار القاعدة القانونية وتطبيقها قد ارتبطا بالدولة ومؤسساتها الدستورية حصراً، في الدولة الحديثة، فإن العامل الأبرز المعاصر يرتكز على خروجهما عن صلاحياتها الحصرية على أثر النيوليبرالية. وهذا ما يعني، أنه لا يمكننا أن نفصل التطورات في علم القانون عن التحولات السياسية والمجتمعية وتطور دور الدولة ومكوناتها وصلاحياتها، لأن القوانين هي القواعد المنبثقة عن السلطات المنتخبة- التمثيلية، وهي السلطات الحاكمة وفقاً لما تم التوافق عليه في ظل الدولة الحديثة الديمقراطية. كما وأنها قواعد ملزمة وعامة، ويرتبط تفعيلها بحصرية استخدام القوة المعطاة للسلطات الشرعية في الدولة. كما وأنه لا بد من التركيز في القواعد القانونية حال صناعتها على تلك المتعلقة بالمجال العام وممارسة الحريات، حيث أنه كلما كان النسق القانوني قد تمت صناعته بطريقة ديمقراطية، فإنه في الأغلب سيكون متوجهاً نحو حماية للحقوق والحريات أكثر ،ومتوأما مع نسقها العام حريصا على ضمانها واستقرار أوضاعها، وهذا يعود في بنيته الأولى على من بيدهم صناعة تلك القوانين، أو الهيئة التشريعية، إذ أنه كلما كان تشكيل تلك الهيئة أو ذلك الكيان بطريقة ديمقراطية، فإن ذلك ينعكس على ممارسته لمهام وظيفته، وصناعته للقوانين.

وعلى مستوى التفاعل والحياة الاجتماعية، فقد شهدت مصر تطورات نصية على مستوى الحركة السياسية والنقابية متأثرة في ذلك بالأبعاد الدولية، والتي تم على أثرها فرض مجموعة من الحقوق المرتبطة بالضمانات العمالية. ففي تلك الحقبة وُضِعَت النصوص المتعلقة بقوانين العمل وضماناته، وكانت التطبيقات مبنية على تكريس النظام العام الاجتماعي، بما يميزه من طبيعة قانونية خاصة، واستقلالية ذاتية بمصادره وفاعليه ومحاكمه الصالحة، وكلّ ذلك بهدف تحقيق المصلحة العليا للمجتمع. لكن لم يعد كافيا، أن تنضم الدولة بشكل إطاري نصي إلى مجموعة من المواثيق والاتفاقيات الحقوقية، تناغماً مع المنظومة العالمية فقط، أو لتجنب فرض سبل عقابية عليها من قبل الكيانات العالمية، إنما لا بد من توفير أطر ممارسة فاعلة لمجموعة الحقوق والحريات التي تشكل في مفرداتها بنيان المجال العام كإطار نظري مفاهيمي، فلا بد تحققه من منظور واقعي ملموس، ولا يقف عند حد كلمات أو اتفاقيات نصية، كما وأنه بنظرة أكثر عمقاً، كلما كان هناك توازن واتساق ما بين السلطات وبعضها البعض، كان هناك فرص لتحقيق مناخ اكثر ديمقراطية، ومساحات أكبر للحريات، وهو ما يعني فعليا وجود مجال عام حقيقي وفاعل في الحياة بشكل كامل، وإلا فلا معنى لأي إطار نصي، لا يمكن تحقيقه في الواقع، وهذا ما يعني تواجد كافة أوجه المعارضة السياسية على جانب النظام الحاكم، في معادلة يجب أن يكون غرضها الأوحد هو الصالح العام لمصر والمصريين.