دكتور مصطفى كامل السيد
لم أضع بعد أسئلة امتحان مقرر التنمية السياسية الذي أقوم بتدريسه مع زميلة فاضلة لطلاب السنة الثالثة بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ولعل القراء الكرام يعرفون، أنه كما أن لعملية التنمية أبعاد اقتصادية، فلها كذلك أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، ومع إدراكنا لهذه الابعاد، فنحن، وأقصد زميلاتي وزملائي المتخصصين في العلوم السياسية يولون اهتماما أكبر بالبعد السياسي لعملية التنمية، وقد خضت مع طلابي نقاشا مطولا حول ما يسمي بأزمات التنمية السياسية، والتي تشمل أزمة بناء الأمة، فلا يكفي أن ينجح بلد في حل أزمة بناء الدولة بإيجاد مؤسسات الحكم من تشريعية وتنفيذية وقضائية، وضمان إشراف هذه المؤسسات على كل مجالات الحياة الاجتماعية ، وإنما لا بد أن يواكب ذلك إطار ثقافي، يجمع المواطنين جميعا، ويسهم في تعزيز ولاءهم للدولة واحترام مؤسساتها، وهو ما تطلق عليه مدرسة أزمات التنمية السياسية أزمة الهوية.
ولم تكن أزمة الهوية هذه أي شعور المواطنين بالانتماء إلى كيان سياسي واحد أزمة كبرى في حالة الدول الأسبق إلى التقدم، وبناء دولة حديثة، أو على الأقل في المراحل الأولى لظهور الدولة الحديثة في هذه المجتمعات، أو فلنقل إنها نجحت في تلك المراحل الأولى في حسمها بطريقة أو أخرى. لم تكن تلك قضية مهمة في تاريخ فرنسا، ولا في تاريخ الولايات المتحدة، وتوصلت المملكة المتحدة مؤقتا؛ للتخفيف من غلواء مشاعر القوميات الصغرى في أسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية من خلال توسيع سلطات الحكومات المحلية في تلك الأقاليم، وغذت ألمانيا وإيطاليا واليابان قبل الحرب العالمية الثانية الشعور الجارف بقومياتها للوقوف أمام القوى الدولية المنافسة، وتشجيع التوسع الاستعماري.
ولكن قضية الهوية هذه كانت تحديا كبيرا للدول المستعمرة سابقا، عندما حصلت على استقلالها، فالدول الاستعمارية كانت تتسم، بأنها دول قومية ، بمعنى أن هناك تلازم بين قيام الدولة ووجود الأمة التي تستند إلى روابط تجمع الغالبية الساحقة من مواطنيها مثل اللغة والتاريخ والثقافة المشتركتين، مما يقود إلى الرغبة في العيش المشترك، ولكن لم يكن هذا هو حال معظم الدول التي استقلت عن السيطرة الاستعمارية، فحدودها في إفريقيا جنوب الصحراء وفي الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، قد خطتها الدول الاستعمارية كمناطق توزيع نفوذ بينها، دونما اعتبار لوجود روابط ثقافية بين سكان هذه الوحدات السياسية التي خضعت لسيطرتهم. ولذلك كانت مشكلة الحفاظ على الدولة في إطار الحدود التي خطها المستعمرون واحدة من التحديات الكبرى التي واجهت الدول المستقلة عن السيطرة الاستعمارية. وانتهى الأمر في حالات معينة إلى انفصال قسم من هؤلاء السكان، وتشكيلهم لدول تحقق هذا التشارك الثقافي، كما كان الحال في انفصال بنجلاديش عن باكستان، أو إرتيريا عن إثيوبيا أو جنوب السودان عن شماله، أو واجهت هذه الدول حروبا أهلية، انتهت بانتصار فريق من سكانها على فريق آخر، مثلما عرفته دول عربية عديدة مثل العراق، وغير عربية مثل نيجيريا وسيرلانكا، حيث قاومت الحكومة المركزية الدعاوى الانفصالية التي رفعها قادة الأكراد في العراق، أو زعماء بيافرا أو إقليم نيجيريا الجنوبي الشرقي أو التاميل في سيرلانكا.
قضية الهوية في مصر:
لحسن الحظ لم تعرف مصر في تاريخها القديم أو الحديث نزاعا حول الهوية، يصل إلى الحرب الأهلية، فمصر تتميز بالتجانس الكبير بين سكانها الذين يتحدثون لغة واحدة مع احتفاظ قلة منهم بلغات أصلية مثل النوبيين أو البشاريين، والروابط الثقافية قوية بينهم من عادات مشتركة، تولدت عن معيشة مشتركة، منذ ما يقرب من خمسة آلاف سنة، ولم تظهر في تاريخ مصر الطويل محاولات جادة للانفصال، وتشكيل كيان سياسي مستقل، وإذا كان الوعي بهذه الهوية المشتركة قد اتخذ تسميات متعددة، حتى استقر الوعي الوطني المصري منذ عهد محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، مثلما ذهب إلى ذلك الراحل أنور عبد الملك. طبعا لا يعني ذلك، أنه لم يكن هناك حوار أسميه فلسفيا حول هوية مصر، هل هي عربية أم إسلامية أم فرعونية أم متوسطية، ولكن كان ذلك حوارا بين مثقفين وحركات سياسية، ولكنه في كل الأحوال كان يدور حول الكيان الأكبر الذي تنتمي إليه مصر، وليس حول تقسيم المصريين إلى هويات متعددة، على الرغم من أن مصر عرفت عبر تاريخها الطويل نزاعات بين البدو والحضر، أو سكان الصحراء الرحل والمزارعين المقيمين على ضفاف النيل، فحتى هذا الصراع قد حسم مع الجهود التي بذلها محمد علي وخلفاؤه؛ من أجل توطين البدو حتى انتهى الأمر باندماج معظمهم مع سكان الوادي، أو تحولهم هم أنفسهم إلى مزارعين، كما هو الحال في جنوب مصر وفي سيناء. كما أن الخطاب السياسي لم يفرق بين المصريين، فعبد الناصر يخاطبهم، باعتبارهم مواطنين، والسادات يخاطبهم باعتبارهم أبناءه والرئيس السيسي يخاطبهم باعتبارهم مصريين، ولم يعرف خطاب الدولة في مصر الحديثة التوجه إلى المصريين، باعتبارهم مسلمين أو مسيحيين، بحراويين أو صعايدة، بدوا أو حضرا. بل لقد رفض المسيحيون في مصر تحفظات بريطانيا دولة الاحتلال على استقلال مصر؛ لتبرير استمرار وجودها العسكري فيها بدعوى أنه لحماية الأقليات، وتقصد بذلك المسيحيين، الذين شجبوا اعتبارهم أقلية، وكما ذكر خالد الذكر مكرم عبيد الزعيم الوفدي وقتها، أن الكل في مصر مصريون، والفارق بينهم أن المسلمين يتوجهون إلى المساجد، بينما يتوجه الأقباط إلى الكنائس.
ولا يعني ذلك، أنه لا توجد بعض الفوارق الثقافية بين مكونات الشعب المصري، ولكنها فوارق تثري من الوجود المشترك. المصريون المسلمون يجلون القديسين المسيحيين، ويشتركون مع رفاقهم في الوطن المسيحيين في الاحتفال بموالدهم، ويتسم النبويون بموسيقى رائعة يتغنى المصريون ببعض أغانيها التي نشرها بينهم العديدون من الموسيقيين والمغنين النوبيين، ولعل محمد منير بشعبيته الطاغية بين الشباب، هو أشهرهم. وقد شارك المصريون بخلفياتهم الثقافية المتعددة في كل مراحل الحركة الوطنية، وفي الحكومة والحركات المعارضة والثورية. تألف الوفد المصري الذي طالب باستقلال مصر من مسلمين ومسيحيين، وكان زعماء بعض القبائل، خصوصا في الفيوم من بعض قاداته. وشارك مسلمون ومسيحيون ونوبيون في الحركة الشيوعية، وتواجدت كل عناصر الشعب المصري في ميدان التحرير في يناير وفبراير ٢٠١١، مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
التعامل مع التعددية الثقافية
ومع أن قوة الروابط الثقافية التي تجمع كافة المكونات في سكان مصر لاتصل إلى حد الادعاء بتعددية ثقافية، إلا أنه من المفيد معرفة كيف تعامل المنظرون ورجال السياسة في المجتمعات المتقدمة مع قضايا التعددية الثقافية فيها. طبعا توجد في الوقت الحاضر اتجاهات يمينية متطرفة في معظم الدول الغربية، تنظر إلى الجماعات المختلفة ثقافيا، وخصوصا من بين المهاجرين أو الأجيال المعاصرة منهم الذين اكتسبوا جنسية هذه البلاد، على أنهم خطر على النسيج الوطني في هذه البلاد، وأن ثقافتها دخيلة على هذه المجتمعات، ولكن يرحب معظم الكتاب بهذه التعددية الثقافية، ويطرحون رؤى مختلفة للتعامل معها، ولكن القلقين منهم على آثار هذه التعددية على سلامة العلاقات بين كافة الثقافات، يتخذون واحدا من موقفين: أولا عدم تسييس الخلافات الثقافية؛ لأنها الطريق إلى تهديد الوحدة الوطنية، وثانيا تشجيع الجماعات المختلفة ثقافيا على الاندماج في المجتمع بتسهيل اكتسابها للمهارات اللغوية الضرورية؛ لتحقيق هذا الاندماج مع تعريفهم بتاريخ أوطانهم الجديدة، ونظمها الاقتصادية والسياسية. دور الدولة في معظم هذه الكتابات هو الاحتفاء بالتعددية الثقافية، والتحذير من تسييسها. بل إنه عندما سعى بعض أبناء هذه الأقليات الثقافية ليس فقط بتسييس مطالبها، بل بالتحول إلى العنف المسلح ضد الجماعات الثقافية الأخرى، مثل التهجم على الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، خصوصا في فرنسا، انحسرت الدعوة المساندة لقبول التعددية الثقافية، بل وتحولتـ إلى تعزيز الجهود الهادفة إلى إدماج الأقليات في إطار ثقافة الأغلبية في هذه المجتمعات، بل ومحاولة صبغ ثقافاتها بسمات الثقافة الغالبة، وهو ما ينطوي عليه الحديث في فرنسا مثلا عن إسلام فرنسي في مقابل إسلام وافد من الدول العربية والإسلامية.
اتحاد القبائل العربية وقضية الهوية في مصر:
وهكذا تبدو جهود إنشاء اتحاد للقبائل العربية في مصر خروجا على تقاليد الدولة المصرية في تعزيز الانتماء الوطني الشامل بين كل مكونات الشعب المصري، ومخالفة لما تدعو له كتابات التنمية السياسية من ضرورة سعي الدول المستقلة عن السيطرة الاستعمارية إلى تعزيز الروابط الثقافية بين مواطنيها، حتى يتواكب بناء الدولة مع بناء الأمة، ومخالفة لتحذير منظري التعددية الثقافية في الدول الغربية من خطورة تسييس الاختلافات الثقافية بين مواطني الشعب الواحد، بل والسعي لبناء الروابط المشتركة اللغوية والسلوكية بين هؤلاء المواطنين. بل تذهب جهود تكوين هذا الاتحاد إلى احتفاظ إحدى مكوناته بتنظيم عسكري، يحمل أفراده السلاح، ولهم أعلامهم وأناشيدهم وزيهم الرسمي الخاص. بل ويتناقض احتفاء الإعلام الرسمي من صحافة وقنوات تلفزيونية بهذا الكيان الغريب مع جهود، تبذلها إحدى مؤسسات الدولة في تعزيز روح الانتماء، إلى ما تسميه الشخصية المصرية، وهي الخطوة التي اتخذتها إدارة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة التي أشرفت على دراسة حول الشخصية المصرية، عرضت نتائجها في اجتماع ضم كبار قيادات القوات المسلحة، وكانت إحدى التوصيات هي بترجمة نتائج هذه الدراسة إلى خطوات ملموسة لتنمية روح الانتماء الوطني في مصر.
لا أعرف ماذا ستكون إجابة طلابي على سؤال حول علاقة، ما درسوه في مقرر التنمية السياسية عن أزمة الهوية، وما جرى الإعلان عنه في الصحف عن إنشاء اتحاد للقبائل العربية في مصر. هذا سؤال أطرحه عليهم هنا، ليس باعتباره سؤالا في الامتحان القادم، ولكن كموضوع للتفكير.