في مفاجأة للجميع، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الخميس 13 أغسطس الجاري، ليعلن التوصل إلى اتفاق سلام جديد بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، في خطوة كللت سنوات من التقارب الخليجي – الإسرائيلي، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة بين عواصم الخليج وتل أبيب، المفاجأة تكمن في إعلان ما كان خفيًا إلى العلن، فالعلاقات التي تجري تحت الطاولة بين إسرائيل ودول الخليج معروفة، فلماذا الإصرار الآن على نقلها لأعلى الطاولة؟
بحسب المعلن سيكون التطبيع بين البلدين كاملًا، بتبادل السفراء وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة، وذلك بعد توقيع معاهدة السلام في البيت الأبيض قريبًا، وتروج أبوظبي إلى أنها أقدمت على هذه الخطوة لإنقاذ الفلسطينيين عبر إيقاف خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بضم غور الأردن، وتشريح ما تبقى من الضفة الغربية، لكن نتنياهو -الذي لا يقدم تنازلات مجانية- قال إن خطة الضم تأجلت ليس إلا، فمن المستفيد الأكبر من هذه الخطوة التي أثارت غضب الفلسطينيين أنفسهم بعدما تم تهميش مطالبهم وقضيتهم، وبدا وكأن أحداث المنطقة الملتهبة قد طوتها؟
لحظة إعلان الاتفاقية، تجعلنا نرى أن المستفيد الأكبر من هذه الخطوة، هو الرئيس الأمريكي ترامب في المقام الأول، والإمارات في المقام الثاني، ثم نتنياهو نفسه، فقد جاء الإعلان عن السلام الإسرائيلي – الإماراتي، من داخل البيت الأبيض وبرعاية مباشرة من إدارة ترامب، الذي أحاط به كبار مستشاريه، وفي مقدمتهم الصهر المفضل جاريد كوشنر بابتسامته الصفراء المميزة.
روجت الإدارة الأمريكية الأمر كانتصار كبير لـ”ترامب” ورجاله، فقد انهالت الأوصاف لتضخيم الحدث من نوعية أنه النقلة الأهم في ملف السلام في الشرق الأوسط منذ 25 عامًا (توقيع معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن 1994)، والإنجاز الأهم منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1979، ومن كل هذا بدت رغبة “ترامب” في ترويج الأمر كإنجاز تاريخي في السياسة الخارجية ملحة قبل نحو ثلاثة أشهر من انتخابات الرئاسة الأمريكية، ويبدو أنه سيواجه فيها صعوبات ضخمة لإقناع الأمريكيين بإعادة انتخابه لأربع سنوات مقبلة.
“ترامب” يعاني من أزمات في الداخل، تتمثل في مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا المستجد على المستويين الصحي والاقتصادي، وتحميله مسؤولية تأجيج العنصرية، بعد مقتل الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد رجل شرطة أبيض، 25 مايو الماضي، في واقعة أشعلت فتيل الاحتجاجات ضد العنصرية، لكن “ترامب” -المدعوم من تيار يميني أبيض- تعامل برعونة مع الواقعة، فكسب عداء الأقليات السوداء والملونة، التي تتجه لتصويت عقابي ضده واختيار المرشح الديمقراطي جو بايدن.
على الصعيد الخارجي لم ينجح “ترامب” في الحصول على مكاسب كبيرة، فشل في توقيع اتفاق مع كوريا الشمالية، ولم ينتج اللقاء “التاريخي” مع كيم جونج أون، إلا مجموعة من الصور التذكارية، كما لم يقدم “ترامب” أية حلول في ملفات الصين وإيران وروسيا، بل اكتسب عداء بعض الحلفاء في أوروبا، لذا كان في حاجة إلى ورقة توت تغطي عورة فشله على صعيد ملف الشؤون الخارجية، وهنا جاء الحل من أبوظبي التي قدمت سلامها مع تل أبيب على طبق من ذهب لـ”ترامب” ليجد ما يتبجح به في حملته لإعادة انتخابه.
لكن هل تكفي القبلة الإماراتية لإنعاش حظوظ “ترامب” الانتخابية؟ يبدو أن ما قدمته الإمارات لـ”ترامب” لا يكفي، فالأخير سيستغل هذه الاتفاقية التي يفترض أن يتم توقيعها في البيت الأبيض خلال أسابيع، في مغازلة اللوبي الإسرائيلي للحصول على مزيد من الدعم الانتخابي، لكن حسابات الناخب الأمريكي تركز على الداخل وليس الخارج، نعم سيركز “ترامب” على هذه المعاهدة للترويج لقدرته “الفذة” في حل أصعب القضايا الدولية، لإخفاء إخفاقاته السابقة في كوريا الشمالية وفي الملف الإيراني، بل وفي ملف سد النهضة الإثيوبي والتوتر في شرق إفريقيا، لكنه لم يتعلم من درس التاريخ، فالرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر (حكم 1977- 1981)، والذي نجح في تحقيق أكبر اختراق في أزمة الشرق الأوسط بتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، فشلت مساعيه في الحصول على صوت الناخب الأمريكي لولاية ثانية، فهل يحصد “ترامب” نفس المصير؟ الإجابة لن تتأخر عن نوفمبر المقبل.
على الصعيد الإماراتي، تهرول أبوظبي إلى توقيع السلام مع إسرائيل، رغبة في تقديم دعم انتخابي سريع لـ”ترامب” على المدى القصير، فهناك تخوف من سياسات المرشح الديمقراطي جو بايدن، والذي شارك كنائب للرئيس السابق باراك أوباما، في توقيع الاتفاق النووي الإيراني، فهناك رغبة خليجية – إسرائيلية في استمرار النهج العدائي الذي يتبعه “ترامب” ضد طهران، وهذا ينقلنا إلى الغرض الأساسي من الاتفاق على المدى الطويل بالنسبة للإمارات، وهو تأسيس التحالف الخليجي – الإسرائيلي كمكون أساسي في الشرق الأوسط الجديد، لمواجهة الخطر الإيراني بشكل واضح.
أطاحت الواقعة بالمبدأ العربي القديم “الأرض مقابل السلام”، الذي يربط التطبيع بحل نهائي وعادل للأزمة الفلسطينية، ليظهر مبدأ “السلام مقابل السلام”، ليعكس واقع التفكك العربي خلال العشرية الأخيرة، وتفوق إسرائيل على الأرض، ليصبح الشعار الحاكم حاليًا في العلاقات الخليجية – الإسرائيلية هو “الحماية مقابل السلام”، ليلخص واقع دول الخليج التي فشلت في قيادة القرار العربي، وقادت المنطقة إلى أوضاع مأساوية، إذ يعاني المحور السعودي – الإماراتي من هزائم في اليمن، وشبت قطر -المحتمية بالمحور التركي – الإخواني عن الطوق، بالتوازي مع أزمة انهيار النفط كمخزن للقوة السياسية، فضلًا عن التقدم الإيراني في بناء إمبراطورية فارسية بنكهة شيعية، عبر نجاحات أساسية في العراق وسورية ولبنان واليمن، بما يشبه الكماشة الإيرانية على دول الخليج.
تدرك أبوظبي أن الزمن تغير، ولم يعد النفط السلاح الذي يعول عليه لجذب الانتباه الأمريكي لمنطقة الخليج، النفط فقد قدرته الذاتية على شراء الحماية، لذا لم يكن غريبًا أن تشعر السعودية والإمارات بالانكشاف في معارك اليمن، التي فضحت الهشاشة العسكرية للبلدين، رغم إنفاق عشرات المليارات على صفقات تسلح لم تظهر جدواها على الأرض، لذا سعت أبوظبي ومن بعدها الرياض للحصول على حليف استراتيجي يقف أمام المد الإيراني في المنطقة بما يهدد عروش الخليج، ولم يكن هناك أفضل من إسرائيل للعب هذا الدور لما لها من ثقل عسكري، ورغبة حقيقية في تقويض المشروع الإيراني في المنطقة، وهناك تلاقت الرغبات في إطار رؤية سعودية – إماراتية تسعى لتوزيع الأدوار بين مصر لمواجهة المحور التركي، وإسرائيل لمواجهة المحور الإيراني.
بالنسبة لـ”نتنياهو” فقد حقق انتصاره الشخصي بكل بساطة، من ناحية ظهر من جديد كبطل إسرائيل الذي يعزز أمنها وينجح في توقيع معاهدة مع دولة عربية كبيرة وغنية، تشاركه نفس المخاوف من إيران، ما يعني المزيد من النجاح في مخطط بناء جبهة إقليمية ضد طهران من ناحية، ومن ناحية أخرى جاءت معاهدة السلام كمبرر مقبول لتراجعه عن قرار ضم نحو ثلث مساحة الضفة الغربية، وهو الأمر الذي قوبل بمعارضة دولية واسعة، ثم على مستوى ثالث أبعد “نتنياهو” الأضواء مؤقتًا عن ملف محاكمته بتهمة الفساد، ليعيد تعريف نفسه باعتباره السياسي الضروري لحماية أمن إسرائيل، مستعرضًا الإنجازات التي أغدقها عليه صديقه “ترامب”، وليس أقلها الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، فيمكن للسلام مع الإمارات أن يكون ورقة انتخابية يستخدمها “نتنياهو” حال إجراء انتخابات عامة إسرائيلية مجددًا.
الفلسطينيون الخاسر الأكبر من ذلك الاتفاق، دفع بهم مجددًا إلى الهامش، ولم يكن لهم مكان على طاولة السلام المزعوم، لذا لم يكن غريبًا أن تأتي ردود الفعل الفلسطينية معبرة عن الإحباط والغضب واليأس، فالجميع بات يدرك أن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية عند الحكومات العربية، وميزان القوى الحالي المنحاز بصراحة لإسرائيل يجعل الحديث عن الحق الفلسطيني من باب الالتزام الأخلاقي لا الرغبة في تحقيق انتصار للفلسطينيين، ربما يكرس اتفاق السلام الإماراتي – الإسرائيلي هذا الواقع الجديد، واقع الحصول فيه على خدمات تل أبيب أهم من أي اعتبارات أخرى.
في النهاية، من المبكر اختبار نتائج السلام الإماراتي – الإسرائيلي، لكن على المدى القصير وخلال أشهر قليلة سنرى مدى نجاعة القبلة الإماراتية في إنقاذ “ترامب” المتعثر في انتخابات رئاسية صعبة، وإنعاش مسيرة “نتنياهو” الساعي لتشكيل حكومة بلا حلفاء ينغصون عليه حياته، إذا ما تحقق الأمران معًا ستكون أهداف الاتفاقية قد تحققت على المدى القصير بالنسبة لأطرافه الثلاثة، وسيبدأ بعدها العمل على تنفيذ المخطط طويل المدى بمحاصرة المخطط الإيراني في المنطقة، لم يكن غريبًا إذن تصاعد الاعتراضات الإيرانية والتي لخصها الرئيس حسن روحاني، بقوله في تصريح نقله تليفزيون بلاده، إن الإمارات ارتكبت “خطأ جسيمًا”، تدرك طهران في النهاية أن اتفاقية السلام الإماراتي – الإسرائيلي إعلان حرب ضدها، ولا عزاء للفلسطينيين.