استوقفتني عبارة قالتها إحدى الأطفال الشهيدات عن معدية أبو غالب، والتي لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها، والتي ” ولله الأمر ” لم تكد تنتهي من امتحانات النصف الأول من العام الدراسي” حيث كتبت على صفحتها أدعو لي ولكم بالمثل، وكانت سلمى من بين عدد قارب العشرين من الأطفال غرقى الفقر والبحث عن لقمة العيش، وهؤلاء الأطفال لم يدفعهم إلى العمالة المبكرة ترف أو البحث عن شهرة أو مجد أو التنزه على أقل تقدير لمن هو في مثل أعمارهم، ولكنهم غلبهم الفقر وغلب أسرهم، مما أضطر بهم إلى النزول غلى سوق العمل في سن مبكرة، لم يتمتعوا فيها بما يجب عليه الأمر من متع للأطفال والمراهقين، فما من سبيل.
فهل لم تعد لنصوص القوانين جدوى، أو لم يعد لنصوص الدستور قيمة حال عدم تفعيلها في الحياة الواقعية، وهل يتوقف دور الأمن عند حد متابعة الحادث، ويقف دور القيادات عند حد صرف التعويضات لأهالي الضحايا، أم أن للأمن دور وقائي يجب أن يسبق وقوع الأحداث، ويسعى إلى تجنب حدوث مثلها في المستقبل، وهو الأمر الذي لا يخرج عن احترام القيم الدستورية، وتفعيل لنصوص القانون.
فإذ كان القانون هو الوسيلة اللازمة لإقرار الأمن والنظام، كما أنه الوسيلة الضرورية لتحقيق التوافق بين الحقوق والمصالح المتضاربة، سواء بين المواطنين وبعضهم البعض أو بين المواطنين والسلطة الحاكمة، وذلك من أجل حماية سلامة الأفراد وممتلكاتهم والحفاظ على استقرار المجتمع ودوامه بشكل آمن. كما يعسى القانون إلى تحقيق العدالة والمساواة بين كافة طوائف المجتمع وكافة أفراده، ذلك بغض النظر عن منزلة المواطنين الاجتماعية أو مكانتهم أو وظيفتهم أو مدى ثرائهم وقوتهم الشخصية، حيث يجب ان تطبق قواعد القانون على الكافة دون أي تمييز، وهذا ما يضمن تحقيق الاستقرار المجتمعي والانسجام بين أفراد الجماعة. فهل لذلك القول من اي قيمة فعلية حال تكرار حوادث عمالة الأطفال، وذلك فقط بخصوص ما يظهر على سطح الواقع من حوادث، قد لا نعلم منها سوى الحوادث الكبيرة، ثل حادثة معدية اوب غالب، فما بالنا بمئات الحوادث الفردية التي لا يغطيها الإعلام، أو تم إخفائها عن عمد من فاعليها، في ظل غياب رقابة قانونية تسمح بمنعها أو حتى تتبع مرتكبها، وإن كان حتى بفرض معاقبة الممتهم فيها لم يغير من الواقع شئ، بخصوص ضياع حقوق الأطفال.
وإذا ما أمعنا النظر من خلال الحادث الأخير الذي تباشر التحقيق فيه النيابة العامة حاليا، فلابد من أن ندرك الأسباب التي تدفع الاسر إلى الدفع بأطفالها مبكراً إلى سوق العمل، ويكثر ذلك جداً في المناطق الريفية وخصوصاً المزارع الكبيرة، والتي يحتاج ملاكها للأطفال الصغار خصوصاً في مواسم الزرع والحصاد، إذ أن كلفة عمالة الأطفال في الغالب تكون اقل من عمالة الكبار، وأن الأطفال تذهب إلى سوق العمل مبكراً تحت سيف الحاجة الملحة لقضاء المتطلبات الحياتية، ولمساعدة أسرهم التي تكون في الغالب في أمس الحاجة لأي دخل يساعد على مقومات الحياة في ظل حالة الغلاء المستمر في كل شيء، وأرى أن القطاع الريفي هو أكثر القطاعات استيعابا لعمالة الأطفال.
ومن الزاوية الاجتماعية، التي يجب أن تكون هي حجر الزاوية في إصدار التشريعات على كافة مستوياتها وإدراك احترامها، فقد أكدت معظم الدراسات الاجتماعية على أن الفقر هو أهم العوامل المهيمنة والمؤدية لانتشار العمالة عند الأطفال، إذ أن وجود الأسر الفقيرة يضطرهم إلى الدفع بالأطفال في سوق العمالة، كما أن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الدول النامية وازدياد معدل الفقر يجعل من المجتمعات الفقيرة سوقا خصبا لعمالة رخيصة من الأطفال، هذا بخلاف ما يحدث داخل سوق العمل من اعتداءات على الأطفال تصل في بعض الأحيان إلى الاعتداءات الجسدية والجنسية، وهو ما يزيد كذلك من ظاهرة أطفال الشوارع وما ينتج عنها من أضرار اجتماعية بالغة الخطورة.
ومن هنا تبدو القيمة العليا لوجود القانون أو النظم القانونية، هو تحقيق العدالة بين المواطنين، ولتحقيق تلك العدالة المنشودة لابد وأن تراعي النظم القانونية حين وضعها من قبل الهيئة الاجتماعية المنوط بها وضع قواعد القانون أن تبتغي في ذلك صالح الجماعة، ولا تحيد لتغليب فئة على فئة أخرى، وبمعنى أدق لابد في واضعي القوانين أن يتمتعوا بصفة الاستقلال وعدم الميل، بمعنى عدم خضوعهم لجهة ما أو لطائفة ما، إذ أن ذلك ما يسبب ان تكون النظم القانونية قد صممت لأغراض تحقق صالح الفئة الغالبة، وهو الأمر الذي يبعد بالقواعد القانونية عن أي مسميات للعدل.
وإذا ما عاودنا القول عن معدية أبو غلب، والتي لم تكن الحادثة الأخيرة، فقد سبقها في نفس المكان حوادث مشابهة لها، وأيضا من أطفال غالبيتهم من الإناث، والتي دفعتهم الحاجة إلى اللجوء لسوق العمل، وبشكل اخص العمالة الزراعية في المزارع الكبرى، لجني المحاصيل والفواكه، وعلى الرغم من تكرار الأمر، إلا أن ذلك لم يدفع بأي من الأجهزة التنفيذية إلى التفعيل الإيجابي لنصوص القوانين، وبشكل اخص منها ما ورد في قانون العمل وقانون الطفل من أطر حمائية للأطفال حال وجودهم في سوق العمل، وأن هناك شرط أساسي لحد السن المتطلب لعمالة الأطفال، كما أن هناك اشتراطات وقائية حال عمالة الأطفال في مجالات محدد.
وننطلق من ذلك التساؤل رئيسي مفاده، ما هو الدور المتطلب من الدولة بكافة أجهزتها، وبشكل خاص حال وجود نصوص قانوني جيدة ” مثل قانون الطفل ” والذي يمثل بحق أحد أهم النظم القانونية الراعية لحقوق الأطفال، ولكن من الناحية الواقعية، ليس هناك تفعيل لتلك الصيغ النصية، والتي ومن فوقها الدستور تحافظ على الحقوق، وبشكل اخص لمن هم صغار السن، والذين يجب أن تكون لهم حماية خاصة حال كونهم في أمس الحاجة إلى الرعاية على المستوى التعليمي والصحي والاجتماعي، وهو ما يتم تفريغه من مضمونه في الحياة الواقعية، وهو ما يدفع إلى تكرار مثل تلك الحوادث.
فهل ستقف الدولة مكتوفة الأيدي أمام هذه الظاهرة المتكررة، على الرغم من وجود النصوص القانونية الكافية لتطبيق الحماية؟ أم أن ازدياد رقعة الفقر هو ما يدفع بالمواطنين إلى البحث عن سبل لمجابهة الظروف الاقتصادية المتردية، حتى باتت العديد من الأمور الحياتية الرئيسية نوعا من الترف، في ظل انحسار أهداف الطبقة الفقيرة من المجتمع المصري فقط إلى البحث عن سبل للحياة والعيش، ولكن لمن يلجأ المواطنون ليدفع عنهم غلاء الحياة ويدفع عنهم ضراوة العيش، أم أن ذلك يخرج عن نطاق ومهام ووظيفة الحكومات.