حكمت وثريا ويروش، ثلاث من ثماني صحف فارسية، كانت تصدر من القاهرة في خواتيم القرن التاسع عشر، فقد كانت القاهرة عاصمةً مفتوحةً لكافة شعوب الشرق، بما في ذلك الشعوب الفارسية، وتصادف أن شهدت الولايات الإيرانية حركة هجرة منها إلى الهند وتركيا ومصر، كانت اللغة الفارسية مع اللغتين العربية والتركية لغات لها الصدارة في شرق أوسط عثماني الجذور، كما هو شرق أوسط واقع تحت التأثير الأوربي سواء كاستعمار ضاغط على الأعصاب، أو كحداثة مغرية مصيرة ملهمة جاذبة لطلائع العقول المفكرة في الشرق الأوسط، وفي قلب هذا الإغراء كانت الحضارة الفرنسية، ومعها اللغة الفرنسية، والتشريعات الفرنسية، ونمط تنظيم الجيوش الفرنسية، وحتى أنماط الحياة الفرنسية كل ذلك، كان يأسر ويجذب النخب في تركيا ومصر وإيران والهند وشمال إفريقيا والشام وغيرها من الشرق الإسلامي الواسع.

في هذا السياق، تدفقت عناصر ممتازة من صفوة النخب الفارسية إلى مصر، جاؤوا من تبريز وأصفهان وكرمنشاه وكاشان وغيرها، وجدوا في القاهرة متكئاً حسن المقام، ففيها ثمرات تحديث مائة عام، فيها مدراس عالية، فيها مطابع، فيها صحافة، فيها مسرح، فيها حركة نشر، فيها حركة وطنية تنشد الحكم الدستوري النيابي البرلماني، كما تنشد الاستقلال عن الاحتلال، كما تنشد التحديث الثقافي والاجتماعي على النمط الأوروبي، لذا توطنت في القاهرة نخب وفدت إليها مهاجرة، من كافة أركان المشرق.

ومن أبرزها وأكثرها نشاطاً، كانت النخب الفارسية هذه النخب أصدرت من القاهرة ثماني صحف باللغة الفارسية، كانت تُكتب وتُطبع وتوزع في القاهرة والإسكندرية وطنطا، كما كانت ترسل بالبريد إلى إيران والقوقاز والهند وسائر البلدان، وقد كان لهذه الصحف دور بارز في الدعوة للتحديث والإصلاح والمطالبة بالحكم الدستوري في إيران، وهو ما ظهر أثره في الحركة الدستورية التي توجت بإعلان الدستور عام 1906 م. كانت النخب الحديثة سواء في تركيا ذاتها أو فارس أو مصر أو شمال إفريقيا، ترى أن الرد على ما تفرضه الحضارة الغربية من تحديات، والوقوف في وجه ما يمثله الزحف الاستعماري الأوروبي من مخاطر وجودية، لا يكون بإعادة استدعاء الماضي ولا إعادة إحياء القديم، لكن بالبدء من حيث انتهت أوروبا ذاتها، مجاراتها، ثم منافستها، ثم التسابق معها وسبقها.

ليس من المفيد الجدال فيمن كان الأسبق إلى التحديث، يكفي القول، إن الأسبق إلى التحديث كان هو الأقرب للخطر أي تركيا مع مطلع القرن الثامن عشر، فقد كانت رأسها هي المستهدفة، ثم تلاها الأكثر وعياً بضرورة التحديث، وهنا كانت مصر وتونس مع مطلع القرن التاسع عشر، وكانت لديهما مطامح الاستقلال عن تركيا، أما إيران فقد كان التحديث وقفاً على همة الحاكم، فقد بدأت مبكرة جداً مع الشاه الصفوي عباس الأول أو عباس الكبير 1571 – 1628 م، فقد كان سباقاً ليس على الشرق فقط، بل على كثير من الأوروبيين وكان أول حاكم شرقي يستقدم عسكريين إنجليز؛ لإعادة هيكلة جيوشه وتسليحها وتدريبها، لكن رغم سبق إيران فقد تعثرت، حتى مطلع القرن العشرين. ورغم مرور القرون على التحديث في كافة بلاد الشرق الأوسط العثماني، إلا أنها ما زالت مأزومة في العمق، فلا هي لحقت أوروبا، ولا هي توصلت لصيغة خاصة بها، ولا تزال قلقة على حاضرها ومستبقلها- وإن بدرجات متفاوتة- في حالات مثل مصر وتونس وإيران وتركيا. ولا يمكن قراءة مستقبل هذه البلدان في انفصال بعضها عن بعض، فهي- بحقائق التاريخ- أجزاء من كل واحد، يصعب سلخ أو فصل بعضه عن بعض، بل يلزم من يتوخى الفهم الصحيح، أن يدرسها على مسارين متكاملين: مسار ذاتي يركز على كل منها على حدة، لكن في الوقت ذاته على مسار عام ينظر فيها جميعاً، ككل غير منفصل؛ لسبب بسيط جداً: حركة التاريخ لم تكن منفصلة، لم يكن التاريخ يفرد لكل منها ركناً خاصاً بها مستقلاً أو منعزلاً عزلة تامة عمن سواها.

بقيت نقطة مهمة، المصريون المعاصرون لديهم اقتناع خاطئ، أنهم عاشوا فاقدين لاستقلالهم الوطني ألفين وخمسمائة عام من غزو الفرس 525 قبل الميلاد، حتى جلاء القوات البريطانية 1956م، وهذا اعتقاد لا محل له من الصواب، فالاستقلال الوطني فكرة حديثة المنشأ، تعود إلى منتصف القرن السابع عشر في أوروبا، ولم تتبلور بصورة واضحة إلا مع مطلع القرن التاسع عشر بعد الثورتين الأمريكية ثم الفرنسية، ولم تأخذ شكلها النهائي إلا في القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الأولى، وعصبة الأمم، ثم بعد الحرب العالمية الثانية والأمم المتحدة، وما مر على مصر من تداول الإمبراطوريات الغازية عليها، هو قاعدة تاريخية، كانت مصر أول من مارسها، قاعدة أن الشعب الأكثر قوة وثروة وتنظيماً وتسليحاً يبسط سلطانه بالقوة أو بالاتفاقيات على العالم المأهول من حوله، مصر كانت أول من استن هذه السنة، وكانت صاحبة الطلعة الاستعمارية الأولى في التاريخ، فعلى مدى يزيد عن خمسمائة عام، فرضت مصر هيمنتها على العالم المعمور آنذاك من أعالي دجلة والفرات في الشمال، حتى الشلال الرابع في الجنوب، ثم اضطردت القاعدة التاريخية من ذلك الوقت، فنال مصر ما نال غيرها منها، ضعفت حضارة مصر، ثم انزوت، وظهرت حضارات الفرس، ثم الإغريق، ثم الرومان، ثم العرب، ثم أوروبا، ثم أمريكا حاليا، ثم الصين وآسيا في المستقبل وهكذا، في ظل هذه القاعدة التاريخية، عاشت الشعوب والحضارات، ولم تكن مصر استثناء مخصوصا في الخنوع والخضوع، كل الحضارات سادت، ثم بادت، وكلها جربت أن تحكم غيرها، كما ذاقت مرارة، أن تخضع لحكم غيرها. هذا الميراث الإمبراطوري لا يضيع، بل يبقى، وتظل له جدارة الإلهام، وهو أوضح ما يكون في إيران وبدرجة أقل- لكنه واضح- في تركيا، لكنه مشتت في مصر، مصر لديها مشكلة، أن من يتحمسون لحضارتها القديمة يفعلون ذلك في إطار الخصومة مع حضارتها العربية الإسلامية، وكذلك من يتحمسون لحضارتها العربية الإسلامية يفعلون ذلك في تصادم مع حضارتها القديمة، ولن تنحل عقدة هذا التناقض، حتى يتيقن المصريون، أن مسيرتهم في الحضارة قطار واحد بمحطات متعددة، وكلها متكاملة يؤدي بعضها إلى بعض، فحضارتهم قبل العروبة والإسلام شرف حي متجددـ، انفردوا به في التاريخ الباكر للإنسانية، كذلك حتى ينظروا لحضارتهم العربية الإسلامية، على أنها شاهد على استمرار عبقريتهم، لا تنفي حضارتهم القديمة حضارتهم الجديدة والعكس صحيح، وهذا ما تفوق فيه الإيرانيون بدرجة فائقة، فهم يجمعون تاريخهم كله في سلة واحدة، الأتراك سمحوا للصدمة الأوروبية، أن تشرخهم وتتصدع تحت ترويعها ثقتهم في أنفسهم، وقد انتقلت منهم هذه الشروخ إلى باقي الإسلام السني. ومهما بلغ بؤس الواقع يظل لدى المصريين مشاعر التفوق التاريخي مع سؤال: من أين نبدأ من جديد؟ وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.