من الصعب أن نجد نخبة سياسية وأمنية في أي دولة أخرى في العالم، استقرت أوضاعها بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبحت عضوا في الأمم المتحدة والمنظومة الدولية، يمكن أن يردد قادتها في أوقات الحرب والسلم، ما يردده نظراؤهم الإسرائيليون، فشهدنا قادة عرب دخلوا في حروب مع الدولة العبرية، ولم يدعوا لإبادة اليهود، كما يقول قادة إسرائيل بحق الفلسطينيين، كما شهدنا على مدار سنوات الحرب الروسية الأوكرانية، وبكل ما خلفته من مرارة واحتقان بين الشعبين، أن بوتين وحكومته أو زيلنيسكي وحكومته يصف “عدوه الآخر”، إنهم “حيوانات بشرية”، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي بكل أريحيه على الفلسطينيين.

لقد تأصل التطرف والعنصرية داخل المجتمع الإسرائيلي بصورة من الصعب، أن نجدها في أي مكان آخر في العالم، بحيث أصبحت هناك طاقة تحريض وكراهية غير متكررة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تدعو لقتل الفلسطينيين وإبادتهم وطردهم من أرضهم في مشهد غير مسبوق في التاريخ المعاصر.

والحقيقة أن المجتمع الإسرائيلي ومنظومة حكمه لم تكتف فقط بالترويج لخطاب التطرف، إنما دفعت الكثيرين إلى فتح قضية المشكلات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي التي جعلته، يتصرف في غالبيته بهذا الشكل من العدوانية، والرضا الكبير أمام مشاهد قتل النساء والأطفال في غزة.

إن دعم الغالبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي لهذا العدوان الغاشم على قطاع غزة فتح الباب أمام مراجعة البعض لكثير من النظريات الاجتماعية، التي لم تقبل بفكرة “وصم المجتمعات” بعيوب هيكلية مرتبطة بجوهر ثقافتها ومنظومة قيمها، وركزت على السياق السياسي والاجتماعي القادر على تغيير هذه المجتمعات نحو قيم حداثية أكثر تقدما، وإيمانا بالمساواة والعدالة والديمقراطية.

يقينا، حالة “الهيستريا” الإسرائيلية في ممارسة الانتقام وقتل المدنيين من الصعب، أن نجدها في تجارب بلدان استعمارية أخرى، وإن خطاب النخبة الإسرائيلية في الداخل والخارج لا يحرض فقط على الكراهية والعنصرية، إنما يعطي غطاء سياسيا لجرائم الإبادة الجماعية وقتل المدنيين والأطفال بشكل متعمد، وإن هذا الخطاب بات مدعوما من الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الحروب الاستعمارية الحديثة، حيث اختار مجتمع ومنظومة قيم الإبادة الجماعية والقتل والتهجير كحل للقضية الفلسطينية، وأصبح بذلك كأنه جزء من حروب ما قبل الميلاد أو حروب القرون الوسطي، التي طرحت فيها مثل هذه الأفكار والممارسات.

والحقيقة، أن حروب الدول الاستعمارية الحديثة لم تقم أساسا في غالبيتها العظمى على الإبادة الجماعية، إنما على أساس الرغبة في الاستغلال الاقتصادي والسياسي، أو البحث عن موقع استراتيجي، يساعدها في الهيمنة على دول العالم، فمثلا الاستعمار البريطاني الذي احتل دولا كثيرة منها مصر، كان أساسا من أجل السيطرة على طرق ملاحة حيوية أو من أجل استغلال اقتصادي وهيمنة سياسية، ولم يقل أنه جاء لإبادة الشعب المصري أو الهندي، وحتى الاستعمار الفرنسي الذي ارتكب جرائم مخزية في الجزائر، لم يقل إنه جاء لطرد الجزائريين من أرضهم أو إبادتهم، إنما سعى لضم الجزائر بالقوة لفرنسا وروج لمقولة “الجزائر فرنسية”، وحين جاء لمصر مع حملة نابليون حمل رسالة ثقافية مع جيوشه الاستعمارية، وقال إنه جاء يحمل شعله الحضارة ومبادئ الثورة الفرنسية؛ لتبرير حملته العسكرية، أما الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي فهو لا يمتلك أي حجة، ويعمل على ضم الضفة وغزة لإسرائيل بتهجير السكان وسرقة أراضيهم وإقامة المستوطنات.

إسرائيل اختارت التطرف والعنصرية والقتل والتهجير كسمات لمشروعها، وأن العصا التي حملها الاستعمار في كل مكان في العالم حمل معها “جزرة”؛ لتحييد بعض الناس أو شراء ولاء البعض الآخر أو عمل تقدم في بعض الجوانب في البلد الذي يحتله، إلا إسرائيل التي اختارت فقط العصا أي الإبادة الجماعية، أو تجنيد بضعة عملاء ليعملوا لحسابه، وهو نمط نادر في تجارب الاحتلال التاريخية، أن يكون الهدف هو إبادة شعب آخر، وليس حتى استغلاله اقتصاديا وسياسيا.

لم نسمع مسئولا سياسيا أو عسكريا أمريكيا أثناء غزو العراق أو أفغانستان، قال إنه ينوي إلقاء قنبلة نووية على الشعبيين ولا وصفهم، بأنهم حيوانات بشرية، ولم يحرض المجتمع في التجارب الاستعمارية المعاصرة على الإبادة الجماعية إلا في حالة إسرائيل.

ويبدو أن المشكلة متجذرة في بنية المجتمع الإسرائيلي؛ لأسباب هيكلية، تتعلق بالنشأة التي قامت من الأساس على نفي الآخر، والعمل على إزالته من الوجود، وهي مسألة لم تحدث في جنوب إفريقيا، حيث بقيت الغالبية السمراء في بلادها، حتى لو حرمت من حقوقها السياسية، ومورس بحقها تمييز عنصري بغيض أسقطه نضال الأغلبية بالأدوات المدنية والمسلحة على السواء.

المجتمع الإسرائيلي في اللحظة الحالية مريض، بأزمة هيكلية في بنية ثقافته ومنظومة قيمه، صحيح أن تواطؤ العالم الغربي مع إسرائيل، واعتبارها دولة محصنة فوق القانون الدولي والمحاسبة، عزز من هذه الأزمة الهيكلية، وجعل لدى نخبتها قناعة، أن عدوانها وجرائمها ستمر كل مرة بدون حساب.

يقينا، منظومة التطرف السائدة حاليا داخل النخب والمجتمع الإسرائيلي باتت في الحقيقة انعكاسا لمشكلة أعمق في بنية المجتمع، وبنشأة الدولة العبرية القائمة على الإقصاء وتهجير السكان الأصليين، إذا لم تتمكن من قتلهم، وهي تكاد تكون المنظومة الوحيدة في العالم الحديث التي طوعت مبادئ الديمقراطية، ودولة القانون، لتقصرها فقط على اليهود، وفي نفس الوقت، تقبل بكل سلاسة، العنصرية، والقتل، وجرائم الإبادة الجماعية.