الزيطة وهي بالمناسبة كلمة عربية فصيحة، تعني الجلبة والصياح- من التعبيرات العبقرية للمصريين، التي عادة ما يستخدمونها حين يجدون مجموعة أو شخصا، يستفيد من أمر يحدث- أيا كان- بأن يدخل في الزيطة، ولا يكتفي بالمشاركة بغير طلب، بل يعلي من تون/ جلبة الحديث؛ وهو بذلك يكون زَيّاط- وهي صيغة مبالغة من زاطَ: كثير الصياح والجَلَبة، وبالتعبير العامي الفصيح “تزبط”، دون تغيير حقيقي، فيما تزيط منه أو له.

أكدت لي تجربة السجن، أن الاتساق القيمي مسألة أساسية في التمييز بين الزيطة وبين الخطابات النافعة، أو ما عبرت عنه في مقال أخير بـ “المعرفة التحريرية“.

الخطابات النافعة خطابات تغييرية، يحكمها الاتساق القيمي والاستقامة الأخلاقية، أما الأول، فهو رطانات لا معنى لها، وزيطة لا خير فيها.

عندما تجد أحدا أو مجموعة-في الزيطة- تتجرأ على نقد الخطابات الدينية، وتصل بهذا النقد إلى هدم التراث الديني، بما فيه من أصول مقدسة عند المسلمين- المسلمين فقط- ولا تجرؤ على نقد حاكم ظالم أو مستبد، ولا تدين أية انتهاكات، تتعلق بالبشر والشجر والحجر… فلا يمكن إلا أن تعدهم من الزياط.

وعندما تجد المجلس القومي للمرأة، ونسويات معتبرات، يهاجمن الخطابات التي تبرر العنف ضد المرأة- ونحن ضدها بالتأكيد- ولكنهم لايرون ذلك جزءا من منظومة أكبر وأوسع من الانتهاكات، استخدمت ضد نساء أخريات، ولا يتكلمون فيه؛ لأن هؤلاء محسوبين على المعارضة أو ضد النظام على حد زعمهم.

لو أحدثكم في الزَيّاطين من كل صنف ونوع، والزياطة مع كل حدث لسطرت مجلدات لا تنتهي، لكن يمكن للمهتم، أن يتابعها في جدالاتنا العامة، وتطبيقات السوشيال ميديا التي تحولت إلى ساحة للزياطة والزائطين.

وإذا كانت الخبرة المصرية قد أفهمتنا الزياطة ودلتنا على الزائطين؛ فإن خبرة أكثر من ثلاثة عقود من متابعة الجدل حول القضايا الدينية/ الثقافية- سواء داخل البلدان المختلفة أو على المستوى الدولي- قد علمتني أن أبحث عن السياسة الكامنة خلفها، ويرتبط بذلك تطور آخر برز على مدار العقد الماضي، وهو أنه اندلع صراع محتدم حول ما أطلق عليه “روح الإسلام

وهي معركة ندور حول أنماط التدين التي يجب، أن تسود داخل البلدان العربية، ويجري تصديرها دوليا.

إن الترويج لما يسميه الحكام العرب “الإسلام المعتدل”- الذي يدور صراع في المنطقة عمن يمثله- عن طريق مأسسة وتنظيم المجال الديني؛ يعني الوصول إلى صورة عن الإسلام، لا تمثل تهديداً لكياناتهم السياسية وبقاءها ونمط تحالفاتهم، وشبكات امتيازاتهم المالية والدولية، (والجديد خدمة مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني) وليس إسلاماً يعيد توزيع السلطة، والثروة في المجتمع- كي لا يكون دولة بين شبكات مصالح ضيقة- كما نصت آية ٧ من سورة الحشر.

يضاف إلى مسألتي السلطة والثروة، إعادة تعريف العدو ليكون: المطالبون بحقوقهم السياسية والاقتصادية، أو المقاومة- أيا كان اسمها ورسمها- لا إسرائيل. يصير العدو في هذا التصور النضالات الاجتماعية والسياسية والمقاومة.

ما اكتشفته من تجربة الحبس التي طالت أكثر، مما ينبغي أن مفهوم الاستبداد يكتسب معني شاملا في حياتنا، لا يقتصر على تغول وطغيان السلطة العليا في الدولة؛ وإنما يتغذي ويتأسس على شيوعه في جميع مجالات حياتنا. يظهر في الاقتصاد، كما يبدو في علاقات الذكر والأنثي في المجتمع. تنفخ فيه مؤسسات التنشئة الاجتماعية- من أسرة ومسجد وكنيسة ومدرسة- من روحها التسلطية الأبوية المهيمنة، فتعطيه قوته واستمراره.

يشيع الاستبداد في هياكل توزيع الثروة والموارد وبين أصحاب الحظوة التي تستأثر بهم، فتجعله دولة بين شبكاتها، وتحرم به فئات عريضة في المجتمع من العيش الكريم. هذه الشبكات ممتدة في هياكل الدولة التي تحللت إلى مجموعات مصالح متباينة، وتتعاضد مع أمثالها في الإقليم والعالم. بات التشبيك بينها عابرا للأوطان، ويبحث له عن تموضع في امتدادات النيوليبرالية المعولمة.

يتغذى الطغيان والاستبداد والأثرة من جوهر العمران، وأشكال البناء وتخطيط المدن، والهندسات الاجتماعية القسرية خلفها، كما يظهر في التهجير القسري لساكني المدن العربية. قدّرت إحدى الدراسات 

أنه تم تهجير ما يقارب الـ٢ مليون و٣٠٠ ألف قاهري على مدار العقد الماضي- عُمر الجمهورية الجديدة بمصر، وهو بالمناسبة نفس العدد الذي هجّرته إسرائيل قسريا في غزة في شهرين.

بعد هذه المقدمات- التي أعتذر للقارئ عن طولها أكثر، مما ينبغي- يصبح السؤال: هل ما ننتجه من معرفة، أو نساهم به في تشكيل النقاش العام، ندعم به الهياكل التسلطية التي أحاطت بنا، ولم تترك ركنا إلا احتلته، أم نساهم في تفكيكها؟

سؤال ثان: كيف يحضر الديني في المجال العام، ويجري توظيفه؛ ليكون قوة استقرار، وليس قوة تغيير؛ وبشكل يؤدي إلى التغطية (بمعني الإخفاء) على أولويات الناس، والتي ترتبط بتحسين حيواتهم الدنيا؛ التي هي مزرعة الآخرة، التي إذا فسدت آخرتهم- كما قال بذلك الماوردي (توفي ٤٥٠ هجرية/١٠٥٩ ميلادية)- الفقيه التراثي.

سؤال ثالث وأخير: كيف تتم مناقشة الديني، وكيف يؤثر هذا النقاش على السياسة؟ بعبارة أخرى؛ كيف يوظف هذا النقاش لخدمة السياسة؟ وكيف يحتل الفضاء العام بديلا عن السياسة التي جرى تصحيرها على مدار العقد الماضي؟

هنا نقدم الملاحظات الخمس التالية:

الأولى: اشتعال الجدل الديني ووأد الحوار السياسي: وفيه عدد من النقاط أبرزها:

١- قدرة السياسة على تضخيم بعض الأصوات على حساب أخرى، خاصة أن بعض هذه المساحات تعمل تحت أعين الأجهزة السيادية الساهرة.

كقاعدة عامة: إن أية اصلاحات دينية أو مزاعم يقوم بها النظام السياسي في هذا الصعيد، هي لخدمة أجندته السياسية، كما أن أي جدل ديني يسمح به النظام، أو يقف وراءه، هو لخدمة أجندته السياسية.

لقد خدمت إصلاحات الرئيس الدينية أجندته السياسية الخاصة، حيث مكنته من وضع جميع مؤسسات الدولة تحت سيطرته [من بين الجوانب الأكثر حدة في محاولات الرئيس للسيطرة على المجال الديني، هي خلافه العلني المستمر مع شيخ الأزهر]، والقضاء على كل أثر لنفوذ جماعة الإخوان المسلمين، والحركات السياسية الإسلامية الأخرى، وتلميع صورته أمام الغرب، باعتباره المصلح الإسلامي المنتظر، ودعم الاستقرار- وفق تعريف النظام- بأيديولوجية محافظة اجتماعيا.

٢- يؤدي طغيان الديني على السياسي، والسياسي على الديني إلى إرباك الجميع، والأهم هو التغطية على أولويات الناس والقضايا؛ فالسقف المرتفع للجدل الديني لا يوازيه نفس السقف في السياسة أو توزيع الثروة، والجرأة على الدين، لا تناظرها جرأة على السلطة أو مرتكزات الثروة، والخلاف على صياغات مواد الدستور، لا يكافئه الجهد في تفعيله.

وهنا تكمن أحد المفارقات؛ فالبرغم من أن النظام يحرص على احتواء أي نقاش حول توزيع السلطة والثروة بمنتهى الحزم، إلا أنه لا يمانع من السماح للجدل الديني، أن يشتد ويقوى، وبرغم هزال السجل التشريعي والرقابي للبرلمان المصري بغرفتيه، إلا أنه تحول إلى منتدى أساسي لإشهار المناقشات الدينية الجدلية.

٣- انقطعت أي صلة واضحة بين اشتعال النقاش وبين أي نتيجة نهائية- أي تغيير في السياسات وأولويات الإنفاق العام والقرارات، ويجري عادة الاهتمام بإغلاق النقاش أكثر من توجيهه نحو اتفاق، أو حل وسط أو إجماع. يرتبط التناقض الثالث بطرح النظام نفسه بوصفه حَكَماً فاصلاً في القضايا الخلافية ومتجاوزاً لها، وأنه صاحب الحلول المطلقة، خاصة في القضايا المصيرية والتاريخية. وأخيراً وليس آخرا؛ فمع- إفراغ المجال السياسي يتحول أي جدل أو تصريح أو خطبة إلى مسألة سياسية.

انتهيت- استنادا إلى أطروحة ناثان براون في كتابه “جدالات الإسلام

(الصادر ٢٠١٧ بالإنجليزية)- إلى أنه بالرغم من تصاعد الجدل حول الديني في النقاش العام في المنطقة العربية، إلا أنه باستثناء خلقّ توجه عاطفي تجاه بعض الممارسات والقوي السياسية؛ فإن جمهورية الحجج والجدل الديني، لا تؤثر في السياسة الواقعية في دول المنطقة، ولا تفرض عليها تغييرا ملموسا، وأن الحجج العامة حول الإسلام تقنع، وتؤثر في تغيير السياسة فقط في مناسبات نادرة.

ويضيف؛ أن المشكلة ليست ندرة في الجدل والحجج، ولكن في ضعف الآليات المؤسسية؛ لترجمة المناقشات العامة إلى سياسات عامة. يؤدي مزيد من الجدل دون فعل سياسي إلى مزيد من تصاعد التسلطية؛ حين يتم استخدام الجدل قنبلة دخان للإجراءات القمعية، وتتحول الدعوة إلى “تجديد الخطاب الديني” أو “الإسلام المعتدل” إلى فرض نسخة سلطوية للإسلام مدعومة من الدولة، ومتجذّرة في القيم الاجتماعية المحافظة؛ باعتبارها أداةً للسيطرة الاجتماعية.

الثانية: اشتعال الجدل الديني يعكس عدم تجانس الدولة ذاتها: ففي الوقت الذي رعت أحد مؤسسات الدولة مبادرة تكوين- على حد قول القائمين عليها- حين أفسحت لهم المتحف الكبير، وسمحت لهم بالنشاط في وقت، يتم فيه السيطرة والتحكم في مجمل النشاط المدني في مصر، قامت المؤسسات الدينية الإسلامية، وفي مقدمتها الأزهر ووزارة الأوقاف بالهجوم على المبادرة ومؤسسيها.

عدم تجانس الدولة نفسها، هو ضد الصورة العامة التي يحاول فيها النظام التعامل مع الدولة كوحدة واحدة يسيطر عليها.

واجهت محاولة الدولة للسيطرة على الدعوة الدينية أربع عقبات: أحدهما يرتكز على الموارد والقدرات المحدودة للدولة المصرية الضعيفة اقتصاديًا. والثانية، يرجع إلى عدم تجانس الدولة نفسها، وثالثا، فإنه بحكم التطورات التكنولوجية لم يعد بالإمكان السيطرة على الخطابات الدينية التي يمكن بثها من أي مكان وبوسائل لا يمكن منعها بحال. وأخيرا، فإن الخطاب يخرج عن نطاق السيطرة إذا لم يجد أي قوة دفع في نتائج السياسة.

إن هذا التعدد في الجهات الفاعلة التي تنتج الخطابات الدينية لا يؤدي فقط إلى إحماء وطيس الجدل الديني في المجتمع المصري، ولكنه يؤدي أيضاً إلى تنافر مؤسسات الدولة، ومع تضييق المجال السياسي وتحجيم النقاش العام، تصبح أجهزة الدولة المتنافرة تلك هي المهيمنة على السجال الديني في البلاد، وتصبح قرارات رئيس الجمهورية، متى أصدرها، هي الحكم الفصل في هذه السجالات خاصة في ظل الحضور الملموس والقوي للأجهزة التي يطلق عليها سيادية.

يتبع النظام سياسة، فرق تسد ليظل هو النقطة المركزية الأساسية في الدولة، كما يستخدم بعض الرموز والشخصيات؛ لمواجهة أو الهجوم على بعض خصومه- إن أراد.

الملاحظة الثالثة: إعادة انتاج الإسلامية التي يمكن استثمارها سياسيا:

يقدم لنا كتاب: “مصر: الدولة المثقلة والمجتمع المضطرب” لناثان براون وآخرين (صادر بالإنجليزية ٢٠٢١) ستة مواضيع رئيسية واضحة لعلاقة الديني بالمجال العام في مصر، وهي الظاهرة التي أطلقت عليها مبكرا “فائض التدين”:

١- هناك إجماع واسع، على أن الدين بشكل عام، يجب أن يلعب دورًا قويًا في الحياة العامة، وأن الإسلام بشكل خاص يجب أن يلعب دورًا رائدًا.

٢- اكتسب الدين حضورًا أقوى في المجتمع والاقتصاد والسياسة المصرية منذ السبعينيات.

٣- يعتبر الدين حافزًا قويًا للعديد من الفاعلين السياسيين. ٤-يتم دفع الدين إلى العديد من المناقشات من قبل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين الذين لديهم رؤيتهم الخاصة، وتفضيلاتهم حول ما يعلمه الدين.

٥- حتى في حالة عدم قيام أي فاعل سياسي محدد بدفع الدين، يمكن للدين أن ينجذب إلى المناقشات السياسية لمجرد وجوده على نطاق واسع في هياكل الدولة المصرية.

٦- غالباً ما يوفر الدين ساحات سياسية- من المناهج التعليمية إلى البنود الدستورية- يتم فيها ممارسة السياسة.

يتقاطع النقاش العام حول الدين مع الأزمة الاقتصادية، وأزمات النظام المتعددة من زاويتين: الأولى، اللجوء إلى الدين لمواجهة تحديات المعيشة، بالإضافة إلى تقاطعه مع المستبعدين من العملية السياسية من الإسلاميين؛ فيعطي لهم شرعية جديدة، وفي المقابل، فإنه يحشد فئات اجتماعية ضدهم أيضا ليزيد الاستقطاب.

وعلى الرغم من تراجع الإسلاميين في بلدان عدة؛ فلا تزال هناك قاعدة اجتماعية صلبة تؤيد هذه الحركات تدور حول نسبة الربع تقريبا وفق عديد استطلاعات الرأي.

ويمكن لهذه القاعدة بكثير أو قليل من الجهد، خاصة مع اختلاف السياقات، وتغير في الأطر التنظيمية والقيادية والفكرية، أن تتمدد في كتلة متأرجحة، بما يسمح باستعادة جزء كبير من شعبيتهم السابقة.

من وجهة نظر المتدينين، هناك شيء آخر يمكن رؤيته، على أنه يثير البهجة وهي أن الكثير من الجدل العلني يحدث على أرض الإسلام. من وجهة نظر إسلامية، أدرك العديد من المشاركين في النقاشات العامة، أنهم يتحدثون والشريعة تظللهم؛ حتى أولئك الذين قد يفضلون تجنب مثل هذا الكلام، ما زالوا يشعرون أحيانًا، بأنهم مضطرون لتبنيه.

الخلاصة: اشتعال الجدل الديني يؤدي إلى تعميق الشرعية الإسلامية ومزيد من حضورها في المجال العام. إن الدين هو قبل كل شيء شأن عام، وبالتالي لا ينبغي أن نتفاجأ عندما نجده منسوجًا في النقاش والمجال العام.

الملاحظة الرابعة: تشظي الاستقطابات، إذ غاب الإسلاميون عن نقد المبادرة، وبرز صوت الأزهر، وعدد من المثقفين المحسوبين على التيار المدني.

من التطورات الهامة التي أشرت إليها في كتابي “لمن السياسة في مصر اليوم”؟ الصادر عن دار المرايا ٢٠٢٣، أن النخب وكذا المجموعات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني لم تعد مواقفها ثابتة، أو يمكن توقعها؛ إذ بات يتحدد موقفها حسب القضية أو الموضوع المطروح. توزع النسويات في الموقف من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين بين مؤيد ومعارض لقانون السلطة. في السنوات العشرة الماضية، توزعت القوى أو التيار الواحد حسب الموقف من السلطة والنظام، وانقسمت بين مؤيد ومعارض له، وليس وفق الانتماء الأيديولوجي. قام النظام بالفرز والتصنيف داخل التيارات جميعا، فاستقطب أفرادا من داخل كل تيار، وبرز في كل تيار أو ناشطين من عارض النظام، ورفض خطابه وأدان انتهاكاته بحق الجميع دون تمييز.

تعمق هذا التوجه مع تكوين التي رأى قطاع من المثقفين المحسوبين على التيار المدني، أنها- بغض النظر عن الحجج التي قدموها- أن موقفهم من السلطة، وما يجري في غزة، يستحق رفض مبادرتهم، ولم يروا فيها تمثيلا حقيقيا للتنوير، أو تعبيرا عن مبادئه وقيمه.

الملاحظة الخامسة والأخيرة: تسييل الديني لهيكلة المجال السياسي وإعادة تعريف العدو.

في ٢٠١٧، صدرت دراسة عن معهد واشنطن- ذي التوجه اليميني المحافظ والداعم لإسرائيل- حملت عنوان: الاسترداد: سياسة ثقافية للشراكة العربية- الإسرائيلية“.

تركّز دراسة “الاسترداد” على كيفية تخفيض ثقافة معاداة السامية وسياسة الرفض في البلدان العربية للكيان الصهيوني، وتعزيز ثقافة الشراكة مع إسرائيل من خلال إجراء تغييرات إيجابية في رسائل وسائل الإعلام والمدارس والمؤسسات الدينية.

ترى الدراسة، توفر ثلاثة اتجاهات جديدة في المنطقة فرصةً؛ لتحسين الخطاب وتعزيز ثقافة لقيام شراكة عربية- إسرائيلية. أولاً، هناك تقارب سياسي في المصالح بين الدول العربية وإسرائيل، في تطوّر “تنازلي”، أسفر عن تحسينات متواضعة في الرسائل الرسمية المتعلقة باليهود وإسرائيل. ثانياً، هناك تنامي في الأصوات الشعبية داخل الدول العربية التي تدعو إلى “سلام بين الشعوب”، في اتجاه “تصاعدي”، يركّز بشكل رئيسي على الجيل الشاب. وأخيراً، بدأت الجهات الفاعلة الإسرائيلية واليهودية الأمريكية بتطوير أدواتها الخاصة؛ للاتصال والتوعية لإشراك الجماهير العربية في عملية تنطلق “من الخارج إلى الداخل”.

هل هناك علاقة بين ما يتردد من رعاية دولة الإمارات لمبادرة تكوين بعد فشل تجربة، مؤمنون بلا حدود وبين توجهات الدولة الخليجية تجاه الكيان الصهيوني؟ وهو ما يدعونا للتساؤل عن العلاقة بين توقيت الإعلان عن المؤسسة، وبين ما يجري من إبادة جماعية للفلسطينيين؟

أختم مشيرا، إلى أن تسييل التعاليم الدينية من المسائل الصعبة، ولكنه إن تم سهل عليك إعادة تعريف العدو، وإعادة صياغة المجتمع والدولة وفق ما تريد، وهو ما يقوم به النظام من ٢٠١٤ حتى الآن.

يقدم النظام مبادراته المتعلقة بدور الدين في السياسة والحياة العامة المصرية، على أنها دعوة للحداثة والتسامح بين الأديان ومحاربة التطرف، ولكن هذه المبادرات قد تكون في حقيقتها محاولة؛ لبسط النفوذ وإحكام السيطرة على مجمل المجال الديني، بما فيه الأزهر وجميع المؤسسات الدينية، وإخضاعها لقيادته وفي نفس الوقت دمج المصريين، أو قطاعات منهم في شبكات تحالفاته الدولية ورعاته الإقليميين.

التسييل مهمة مؤقتة غرضها احتلال المناطق المسيلة برؤى، وتصورات النظام ورعاته الإقليميين والدوليين، والتي جوهرها التحكم والسيطرة، ولكن انبعاث الجدل الديني يصادم هذه الرؤية من أربعة وجوه:

١-انتقال مكان الجدل الديني من المسجد إلى الاعلام بشكله التقليدي والجديد يخفف من قبضة النظام؛ ففي حين جرت السيطرة على المساجد وتأميم مجمل المجال الديني فإن السوشال ميديا صارت مكانا للجدل العام بدلا من المساحات المؤممة، وقد يوفر المجال العام “الافتراضي” أساسًا فعالًا لتحدي الأنظمة الاستبدادية، ولكن ليس بالضرورة لبناء بدائل سياسية فعالة.

٢- يظهر تعدد المشاركين فيه عدم تجانس الدولة نفسها، كما قدمت، وهذا ضد الصورة العامة التي يحاول فيها النظام التعامل مع الدولة كوحدة واحدة، يسيطر عليها.

٣- تشجيع الجدل الديني يدعم -من حيث لا يريد النظام-اطروحة الإسلاميين التي تدور حول مزيد من حضور الديني في المجال العام.

٤- وأخيرا؛ فإن رذاذ المبادرة قد يرتد على النظام، حين يربط المصريون بين أزماتهم المعيشية التي يحملون النظام وزرها، وبين نخب وخطاب يرعاه النظام، لا يريد أن يترك لهم دينهم، بل يسعى إلى انتهاكه، كما انتهكت معايشهم.