وصلت مفارقات السياسة الأمريكية ذروتها في قرار مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار في غزة.
الأولى، أنها تقدمت بمشروع القرار، كأنه مقترح إسرائيلي، رغم أنه لم يصدر عن تل أبيب إشارة واحدة، تؤكد ذلك الادعاء!
هذه بذاتها سابقة لا مثيل لها في تاريخ المنظمة الدولية.
الثانية، أنها ألحت على الإدانة المسبقة لـ “حماس” باعتبارها العقبة الوحيدة، وأن العالم كله مطالب بالضغط عليها، لا على إسرائيل، حتى تتوقف المآسي الإنسانية في غزة.
الثالثة، أن القرار نفسه جرى توصيفه مرة بـ “المقترح الإسرائيلي”، ومرة أخرى بـ “مقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن”- حسب مقتضيات المصالح والظروف، دون الإشارة في أغلب الأحيان، إلى أنه قرار أممي ملزم، بعد أن جرت الموافقة عليه، بما يشبه الإجماع باستثناء روسيا التي امتنعت عن التصويت.
إنها مقتضيات الدعاية؛ لتحسين صورة إسرائيل، التي كادت أن تتقوض باتساع نطاق الغضب الإنساني على جرائمها المروعة في غزة، التي استدعت محاكمتها أمام “العدل الدولية” بتهمة “الإبادة الجماعية”، وتوجه “الجنائية الدولية”؛ لاستصدار مذكرتي توقيف بحق رئيس الوزراء “نتنياهو” ووزير دفاعه “جالانت”.
استهدفت الدعاية بالوقت نفسه تحسين صورة “بايدن”، التي تدهورت شعبيته في أوساط حزبه الديمقراطي على خلفية أدواره في حرب غزة قبيل الانتخابات الرئاسية الوشيكة.
الرابعة، أن قرار وقف إطلاق النار ليس كاملا ولا نهائيا، ويمكن إسرائيل من أن تعاود الحرب في أية لحظة بذريعة، أو أخرى تنكيلا مستأنفا بغزة وأهلها، بعدما تكون المقاومة الفلسطينية قد خسرت “ورقة الرهائن” أهم أوراقها التفاوضية.
بتعبير منقول عن دوائر مقربة من “نتنياهو”، فإن القرار لا ينص على وقف الحرب، هذا ما تريده إسرائيل بالضبط، وتمانع فيه المقاومة الفلسطينية تماما.
بدا رد المقاومة الفلسطينية، لا “حماس” وحدها، حذرا خشية الوقوع في الأفخاخ المنصوبة.
انفتاح محسوب على القرار الأممي مرفقا بتعديلات على “المقترح الإسرائيلي” أهمها، أن يكون وقف إطلاق النار مستداما، وأن يشمل الانسحاب من قطاع غزة معبر رفح مع مصر ومحور فيلادليفيا.
بنصوصه وحساباته، وما قد يحدث بعده يبدو القرار ملغما بأسوأ السيناريوهات والكمائن السياسية، كما لو كان تأسيسا على الأرض لتصورات “اليوم التالي”، التي تتبناها إدارة “بايدن”.
تبنى قرار مجلس الأمن رؤية “بايدن” بحذافيرها باستثناء بعض التعديلات المحدودة لتمريره.
كان أفضل ما فيه: “رفض أية محاولات لإحداث تغيير ديموجرافي أو إقليمي في قطاع غزة، بما في ذلك أي إجراءات تقلص مساحة أراضيه”.
هذا مكسب حقيقي يعود الفضل الأول فيه للمقاومة والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، لكنه يدخل بالوقت نفسه ضمن الخطوط الرئيسية المعلنة للتصورات الأمريكية عن “اليوم التالي”، التي حاولت أن تستجيب للحقائق على الأرض، قبل أن تذهب إلى أهدافها ومراميها في تقويض المقاومة واستعادة الأسرى.
هناك ثلاث مراحل لوقف إطلاق النار، تؤسس لإجراءات وترتيبات بعدها تحقق لإسرائيل، ما عجزت عنه بالسلاح.
الأولى، عباراتها قاطعة ولا تحتمل تأويلا: “الوقف الفوري التام والكامل لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع”، كأنها هدنة مؤقتة لإعطاء انطباع واسع، أن سلاما يكاد يطل على المشهد الدموي المريع في غزة.
في المرحلة الافتتاحية، أودعت أولويات وتصورات تؤسس بحذر لـ “اليوم التالي”.
بدا “إطلاق سراح المحتجزين النساء والمسنين والجرحى وإعادة رفات بعض المحتجزين الذين قتلوا، وتبادل الأسرى الفلسطينيين” مدخلا لاجتذاب الرأي العام الإسرائيلي القلق إلى صف الرؤية الأمريكية وإرضاء “الحلفاء العرب”، الذين يودون وقف الحرب بأي ثمن حتى لا تؤدي تداعياتها إلى إضرار استراتيجي بهم.
بدا التمييز واضحا وصريحا بين الأسرى على الجانبين.
كانت الإشارة إلى الإسرائيليين مسهبة فيما جاءت مقتضبة عن الفلسطينيين، كأنهم محض أرقام لا بشر يرتكب بحقهم أبشع أنواع التعذيب في المعتقلات الإسرائيلية.
بدا مستلفتا النص على: “انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة بالسكان في غزة، وعودة المدنيين الفلسطينيين إلى ديارهم وأحيائهم في جميع مناطق غزة، بما في ذلك الشمال، فضلا عن التوزيع الآمن والفعال للمساعدات الإنسانية على نطاق واسع في جميع أنحاء القطاع”.
النص في عمومه إيجابي، لكنه يمهد بالوقت نفسه، لما تنتويه الإدارة الأمريكية في “اليوم التالي”.
كان المأخذ الرئيسي على حكومة “نتنياهو” غياب أي أفق سياسي لما بعد الحرب، وقد جرت مناكفات، لكنها داخل البيت الواحد.
في المرحلة الثانية، أفسح المجال واسعا للتفسيرات المتناقضة، التي تسمح بكل شيء وعكسه.
وفق تلك المرحلة، فإنه يتعين على “حماس”: “إطلاق سراح جميع المحتجزين الآخرين في غزة”، أي إغلاق ملف الرهائن نهائيا، دون أن يكون هناك وقف نار مستدام.
التعبير الذي استخدم “وقف دائم للأعمال العدائية”.
الأمور قد تزداد سوءا، إذا ما جرى الإفراج المنفصل لخمس رهائن من المستوطنين، الذين يحملون الجنسية الأمريكية، دون ثمن سياسي لصالح المجهود الانتخابي لـ “بايدن”!
بذريعة أو أخرى، المرحلة الثانية مرشحة للانهيار، حتى لا تكون إسرائيل ملزمة وفق القرار الأممي لـ “انسحاب قواتها من قطاع غزة”.
قد يوحي النص على الانسحاب، إننا بصدد عودة “حماس” لحكم قطاع غزة من جديد.
حسب ما هو معلن ومخطط مسبقا، لن يحدث ذلك.
إننا أمام سيناريو آخر تعود بمقتضاه السلطة الفلسطينية لحكم الضفة الغربية وقطاع غزة معا.
سلطة متجددة حسب التعبير الأمريكي، سلطة بلا “محمود عباس”، الذي فقد شعبيته وشرعيته معا، ويبدو عاجزا عن السيطرة على مجريات الحوادث في فلسطين المحتلة.
سلطة “محمود عباس” استهلكت أدوارها وزمنها والتحلل ضرب بنيتها.
إرث الكراهية مع “حماس” على خلفية الانشطار عام (2007) بمشاهده المأساوية، يغذي الثأر لا التضامن، الذي تفرضه المحنة التي لا تفرق بين فلسطيني وآخر.
بنفس الوقت فإن “حماس” تجد نفسها في وضع حصار محكم.
لا يوجد نظام عربي واحد مستعد، أن يتحمل كلفة الدفاع عنها.
القوى الشابة في الغرب، التي ناهضت الحرب على غزة، يصعب أن تلعب أية أدوار تساندها، فهي تنحاز للضحية الفلسطينية وعدالة قضيتها لا لـ “حماس”، أو أي فصيل فلسطيني بعينه.
خشية إفساد “الطبخة السياسية” المنتظرة، التي تراهن عليها الإدارة الأمريكية في إعادة ترتيب الإقليم من جديد بالتطبيع مع السعودية، ودمج إسرائيل في منظومة اقتصادية وأمنية، دعا القرار الأممي إلى استمرار وقف إطلاق النار بعد المرحلة الأولى، طالما استمرت المفاوضات.
كان ذلك مطلبا ألح عليه “بايدن” عند إطلاق، ما أسماه بـ “المبادرة الإسرائيلية” أواخر مايو الماضي.
بصياغتها المقتضبة والعمومية، تستكمل المرحلة الثالثة كمائن “اليوم التالي” باسم “الشروع في خطة كبرى؛ لإعادة إعمار غزة، وإعادة ما تبقى من قطاع من رفات أي محتجزين إلى أسر الرهائن”.
تحتاج غزة التي دمرت تماما، مبانيها وبنيتها التحتية ومستشفياتها ودورها التعليمية، وكل شيء يتحرك فيها بالحياة، إلى إعادة إعمار كاملة، لكنه لن يكون مجانيا، أو بالدواعي الإنسانية وحدها.
إذا لم يكن هناك صف فلسطيني موحد وفق برنامج مرحلي توافقي، سوف تمضي خطة “اليوم التالي” إلى آخر مداها في إجهاض المكاسب الاستراتيجية، التي دفع الفلسطينيون ثمنها باهظا دما وتشريدا وتجويعا وصمودا أسطوريا.