في كل مناسبة يظهر فيها عمق وشمول (وعدوانية) الالتزام الأمريكي نحو إسرائيل- وما أكثر هذه المناسبات- يثور السؤال عن أسباب الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، وهو انحياز يجعل الولايات المتحدة في أحيان كثيرة مختلفة مع العالم كله، كما حدث عشرات المرات من استخدام الفيتو في مجلس الأمن؛ لإسقاط أي قرار تعترض عليه إسرائيل، وكان أحدث فيتو أمريكي لصالح إسرائيل وضد العالم كله، هو الذي استخدم مؤخرا؛ لمنع قبول عضوية الدولة الفلسطينية عضوا في الأمم المتحدة.
أكثر من ذلك، فلا ننسى مقولة الرئيس الأمريكي الحالي بايدن، في بداية حرب غزة الحالية: ”لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها”، وكان بايدن بهذه العبارة يمهد ويعلل مساندة واشنطن للجانب الإسرائيلي مساندة كاملة ماديا ومعنويا ودبلوماسيا وإعلاميا في الحرب الشاملة على قطاع غزة، حتى وإن كانت حرب إبادة جماعية، وحتى لو طالب العالم كله- بمافيه الرأي العام الأمريكي بوقف هذه الحرب.
البعض يرون أن من تلك الأسباب قوة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وتأثير هذه القوة الذي لاينكر على نتائج الانتخابات عامة هناك، وخاصة انتخابات الرئاسة، والبعض الآخر يغلب الأسباب الاستراتيجية المتمثلة في مقولة إن إسرائيل حاملة طائرات مجانية وجاهزة دائما؛ للمساهمة في حماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، كحليف يُعتمد عليه، ودون تقليل من فعالية هذين السببين المذكورين، فإن فريقا ثالثا يرى أن الهولوكست النازي لليهود فرض على الولايات المتحدة؛ لأسباب أخلاقية دعم إسرائيل بوصفها الدولة اليهودية الوحيدة في العالم ، أما التفسير الرابع، فهو القول الذائع، أن إسرائيل هي واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط.
لكن قارئنا سوف يكتشف من هذا المقال، أن كل هذه الأسباب مجتمعة تصدر عن سبب واحد أعمق جذورا في الثقافة السياسية والدينية الأمريكية، من حصرها في سبب بعينه من تلك الأسباب المذكورة في الفقرة السابقة، ويتلخص هذا السبب الواحد في عمق انغراس الفكرة الصهيونية- أي عودة اليهود إلى أرض الأجداد- في العقل العام الأمريكي، وذلك انبثاقا من خبرة تأسيس الولايات المتحدة نفسها من مهاجرين لهم رؤية خاصة في الدين والتاريخ والسياسة، وهي رؤية مستمدة من أفكار عصري الإصلاح الديني والتنوير، التي ترفض الاضطهاد؛ بسبب الدين أو العِرق، وترى أن الديانة اليهودية هي أحد روافد الحضارة الغربية الحديثة الرئيسية.
في حديث قديم مع ويليام كوانت نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط قال لي، “إن لدينا شعورا عميقا بالالتزام ناحية إسرائيل، وهو التزام يأخذه السياسيون بجدية، ليس في أعوام الانتخابات فحسب، لأن أمن إسرائيل ورفاهيتها يأتيان في مقدمة الأولويات لدى عدد كبير جدا من الأمريكيين “.
للتدليل على عمق وأسبقية الالتزام الأمريكي بالصهيونية، فقد تقدم ٤١٣ من الشخصيات الأمريكية البارزة عام ١٨٩١ إلى الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون، ووزير خارجيته جيمس بلين، برسالة تطالب بالعمل على عودة اليهود إلى فلسطين، وكان على رأس هؤلاء الموقعين على الرسالة، رحالة ومبشر مسيحي من شيكاغو، اسمه ويليام بلاكستون، وقد سبقت تلك الرسالة كتاب الدولة اليهودية لتيودور هرتزل، بثلاث سنوات، وسبقت عقد المؤتمر الصهيوني الأول بـ ٦ سنوات، كما سبقت وعد بلفور بـ ٢٦ عاما.
وقد أحال الرئيس هاريسون ووزير الخارجية بلين ذلك المشروع إلى القنصل الأمريكي في القدس الذي رد قائلا، إن فلسطين ليست جاهزة لليهود بعد، كما أن اليهود بدورهم ليسوا جاهزين حاليا لفلسطين، والمعنى هنا أن الرئيس الأمريكي أخذ الرسالة بالجدية اللازمة.
وبعد صدور وعد بلفور، طلبت بريطانيا التأييد الأمريكي، فكان رد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون قائلا، إنها لنعمة إلهية، أن يتوجب عليّ أنا ابن القسيس، أن استعيد الأرض المقدسة لشعبها. ويقول البروفسور ستيفن لـ .شبيجل أستاذ العلوم السياسية الأسبق في جامعة كاليفورنيا في كتاب له عن الصراع العربي الإسرائيلي، إن ويلسون كان مفتونا بفكرة قيام دولة صهيونية ديمقراطية تحل محل الطغيان التركي العثماني في فلسطين.
ومما يذكر هنا، أن البيت الأبيض لم ينتظر رأي وزارة الخارجية، بل سارع إلى التصديق على وعد بلفور، ومن لحظتها تأسس تقليد، أن العلاقات الأمريكية مع الحركة الصهيونية، ثم إسرائيل هي اختصاص أصيل لساكن البيت الأبيض، وليس لوزارة الخارجية، ومن هنا نعرف كيف أهملت نصائح الخارجية الأمريكية في قضية فلسطين كثيرا، وكيف اتخذ البيت الأبيض سياسات تخالف تلك النصائح، فمثلا كان وزير الخارجية لانسينج، رافضا لتأييد وعد بلفور، كما رفضته البعثات التعليمية والتبشيرية الأمريكية في البلدان العربية.
ومن ويلسون إلى فرانكين روزفلت، نجد الأخير يمارس لعبة مزدوجة بين العرب والصهاينة، فبينما قيل، إنه يدرس إقامة الوطن القومي اليهودي في إفريقيا، فقد كان هو الآخر مفتونا بأرض التوراة، وكان يتطلع إلى قيام دولة يهودية خالصة في فلسطين، مع تقديم إغراءات مالية للعرب الفلسطينيين- من خلال صندوق دولي- كي يغادروا، ويتركوا الأرض للدولة اليهودية الخالصة.
وجاء هاري ترومان، رئيسا أمريكيا بعد روزفلت، وعلى الرغم من مما اشتهر عنه، من أنه تساءل كم صوتا يهوديا وكم صوتا عربيا في الانتخابات الأمريكية، وذلك لكي يبرر اعترافه الفوري بإسرائيل، فإنه- أي ترومان- كان دارسا متعمقا للتاريخ، وكان يعتقد أنه يفهم المحنة اليهودية، ولذا يؤيد قيام إسرائيل، رغم معارضة كثير من مساعديه، أما تحفظه الوحيد، فقد كان ألا يضطر لإرسال نصف مليون جندي للدفاع عنها، وذلك وفقا لكتاب البروفسور ستيفن شبيجل، الذي سبقت الإشارة إليه.
وبينما كان الرئيس الأمريكي التالي دوايت آيزنهاور، متشككا في أنه كان سيعترف بإسرائيل، لو كان هو الرئيس وقت قيامها، فإن خليفته جون كنيدي، دخل البيت الأبيض مشبعا بالإيمان بإسرائيل، وذلك لسبب غريب جدا، وهو ارتباطه العاطفي بأيرلندا أرض أجداده، مما يجعله يتفهم ويحترم ارتباط اليهود بفلسطين، أو إسرائيل أرض أجدادهم !! وهو القائل في مؤتمر انتخابي، إن إسرائيل بالنسبة إلى الأمريكيين من أصل أيرلندي هي القضية الموازية، أو التالية لقضية استقلال أيرلندا، وهو القائل إن المثل العليا الصهيونية حظيت بتأييد الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبتأييد الأمريكيين من كل قطاع ومن كل الطبقات، ولذا فإن الصداقة الأمريكية الإسرائيلية، ليست قضية حزبية، ولكنها التزام قومي، بل إنه تخلى عن مرشحه الأول لوزارة الخارجية السناتور ويليام فولبرايت، لأن الأخير صرح ذات مرة، بما يغضب إسرائيل واليهود الأمريكيين.
وكان كنيدي هو أول الرؤساء الأمريكيين التزاما بتسليح إسرائيل؛ بديلا عن فرنسا، أولا عن طريق ألمانيا (الغربية وقتها)، وثانيا مباشرة من الولايات المتحدة نفسها، بما يضمن تفوق إسرائيل عسكريا على كل جيرانها، وهذا الالتزام مستمر حتى الآن، وبعد الآن.
أما الرئيس ليندون جونسون، الذي خلف كنيدي بعد اغتيال الأخير، فكان مفعما بإيمان توراتي يشعل عواطفه نحو إسرائيل، ومن مأثوراته في هذا السياق قوله لأعضاء منظمة بناي بيرث اليهودية الأمريكية، إن أغلبيتكم، إن لم تكونوا جميعا لديكم ارتباط بشعب وأرض إسرائيل مثلي تماما، لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، فالقصص التوراتية نسجت ذكريات طفولتي، تماما مثلما أن نضال اليهود المعاصرين قد نُسج في أعماق أرواحنا.
كما خاطب جونسون رئيس دولة إسرائيل وقتها زالمان شازار، بقوله إن جمهوريتنا مثل جمهوريتكم رضعت فلسفة المعلمين العبرانيين الأوائل، الذين علموا البشرية مبادئ الأخلاق والعدالة الاجتماعية والسلام الكوني… إن هذا هو ميراثنا وهو منكم.
ونختتم هذه المقالة هنا على أمل العودة إلى الموضوع في وقت لاحق، ولكن لا بد من القول، إن مدلول العرض السابق كله، أن التيار الرئيسي في السياسة الأمريكية، لا يرى غير إسرائيل حاليا، ولا يرون غير اليهود تاريخيا، مع أن هناك شعب له حقوق غير قابلة للإنكار اسمه الشعب الفلسطيني، ومع أن كل الحضارات القديمة ساهمت في مبادئ الأخلاق والضمير والسلام، وليس الشعب اليهودي وحده، كما ادعى ليندون جونسون، في الفقرة السابقة مباشرة. وارجعوا إلى كتاب جيمس هنري برستيد، بعنوان “فجر الضمير“، الذي ولد هنا في أرض مصر سابقا ظهور العبرانيين في التاريخ بألفين من السنين.