لست أدري ما القيمة الحقيقية للنص الدستوري الذي يجعل من صحة المواطنين حق، وأن للعلاج والرعاية الصحية نسبة مخصصة، ومتزايدة بحسب النص المستحدث من دستور 2014، إذ أنه وفق الدستور المصري، فإن على الدولة أن نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وهي جميعها تسعى؛ لتتوافق مع ما استقرت عليه الاتفاقيات الحقوقية، بحسبها باتت هي أقل مستوى من الحكم الديمقراطي الرشيد.

لكن ذلك لم يكن كافيا من وجهة نظر الحكومة المصرية، والتي تقدمت بمشروع قانون لخصخصة قطاع الصحة، وقد تناول مشروع القانون الجديد، أن مقدم الخدمة الصحية، أي شخص طبيعي منوط به تقديم الرعاية الطبية أو الصحية أو التمريضية أو الرعاية اللاحقة أو توفير البيئة العلاجية المناسبة، من الحاصلين على ترخيص بمزاولة إحدى المهن الصحية وفقا لأحكام القوانين المنظمة للحصول على تلك التراخيص، والخدمات الصحية التي تعرف بأنها الإجراءات الطبية، أو الفحوصات المعملية أو الإشعاعية، التي يتم تقديمها بمعرفة مقدم الخدمة الصحية، أو يشترك في القيام بها، وتشمل الكشف أو العلاج أو إجراء الفحوصات الطبية أو الفحص السريري أو المشورة الطبية أو العمليات الجراحية، أو التمريض أو وصف الأدوية أو الإقامة في المنشآت الصحية؛ لتلقي الخدمات الطبية أو النقاهة أو تقديم الخدمات الوقائية.

كما تناول أنه يجوز منح التزامات المرافق العامة للمنشآت الصحية للمستثمرين المصريين أو الأجانب، وذلك وفق مجموعة من الاشتراطات هي: الحفاظ على المنشآت الصحية، وما تشتمل عليه من تجهيزات وأجهزة طبية لازم، أن يتوافر في الملتزم الخبرات اللازمة؛ لتشغيل المنشأة الصحية، عدم التنازل عن الالتزام للغير دون الحصول على إذن من مجلس الوزراء، وألا تقل مدة الالتزام عن ثلاثة أعوام، ولا تزيد على خمسة عشر عاماً، أيلولة جميع المنشآت الصحية بما فيها من تجهيزات وأجهزة طبية لازمة لتشغيلها إلى الدولة في نهاية مدة الالتزام دون مقابل وبحالة جيدة، وذلك فيما عدا المنشآت التي تسمح شروط الالتزام للملتزم باستئجارها من الغير. على أن يصدر بمنح الالتزام وتحديد سائر شروطه وأحكامه أو تعديلها وحصة الحكومة وأسس التسعير مقابل الخدمات الصحية، للمنشأة الصحية بانتظام واضطراد في حدود القواعد والإجراءات السابقة، قرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير المختص، على أن تبدي الجهات المعنية الرأي في شأن منح الالتزام خلال شهر من تاريخ طلب رأيها.

والمثير للدهشة والانتباه الحقيقي، هو ما أثير حاليا، حتى من قبل أن يصدر القانون الجديد، أو حتى ينتهي مجلس النواب من مناقشته وإصداره، إلا أنه وبحسب موقع “الموقف المصري”، فإن الحكومة قد قامت بطرح 6 مستشفيات عامة للإدارة والتشغيل، وذلك في 6 محافظات مختلفة، وذلك على أساس كونها فرصا استثمارية، وذلك على موقع الهيئة العامة للاستثمار، إلى جانب إنشاء وإدارة 8 منشآت صحية وإنشاء 18 منشأة.

فمن أين سوف تحافظ الدولة على التزامها الدستوري؟ أو تتسق مع ما أبرمته من اتفاقيات حقوقية تتماشى مع غرض الحفاظ على صحة المواطنين، وكون الرعاية الصحية، وتلقي العلاج حق لكل مواطن، لكن كيف يتفق ذلك مع جعلها سلعة، تخضع لقواعد السوق بشكل واضح وصريح، فمن يملك يُعالج، ومن لا يملك ليس له علاج.

كما أن ذلك ومن زاوية قانونية مبدئية لا يستقيم مع وجود قانون التأمين الصحي الشامل، وهو ذلك القانون الذي روجت له السلطة التنفيذية، ووجهت له حتى تم إصداره، بل ما يزيد الأمر أنها فعليا بدأت خطوات تجريبية في بعض المحافظات الغير مكتظة بالسكان.

فهل ستتخلى الدولة عن تحقيق الخطوات التي بدأتها تنفيذاً بتفعيل نصوص قانون التأمين الصحي، تاركة بذلك الخدمة الصحية بين يدي المستثمرين، وهو ما يعني أن تصبح الخدمات الصحية مجرد سلعة تخضع لآليات السوق ما بين المريض والمستثمر؟

أم كيف يتسنى لها، أن تعمل توافقا ولو بشكل جزئي ما بين القانونين، وإن كان الأمر لا يستقيم لكونهما لا يتفقان من حيث المبدأ أو الغرض الذي من أجله تم إصدار كلا التشريعين.

كما أنه من ناحية واقعة، فهل تتحمل جيوب المواطنين عبئا جديدا متمثلا في جعل القطاع الصحي قطاع تجاري؟ على الرغم من معرفة السلطة بتزايد حد الفقر بين المواطنين، وانخفاض نسبة الطبقة الوسطى، وارتفاع الأسعار في السلع المرتبطة بضمان الحق في الصحة، مثل الحق في الغذاء والسكن، بما يشمله من مياه وكهرباء وخدمات، لا يمكن تصور وجود حق في الصحة، دون وجودها بشكل ضروري، فهل فعليا قد قرأت الدولة إمكانية تحقق ذلك، في ظل كل هذه المتناقضات.

أم أن المؤسسة الحاكمة في ظل ما هو عليه الوضع الراهن من تدهور في الأحوال الاقتصادية، وتردي لمستوى الخدمات، وتزايد حجم الديون ليس أمامها من سبل سوى التحميل على المواطنين في كل ما تستطيع فرضه عليه من رسوم وسبل لتحصيل الأموال.

وإذ إن التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتوالية تخلف حتما أعباء ثقيلة على عاتق الدول من جوانب مختلفة، يلزم أن تكون الدولة مواكبة لها ومتطورة بتطورها، فتلجأ إلى التماس أفضل الحلول نجاحاً؛ لمجابهة تلك التطورات والمستجدات، بما يجلب لها منافعها ويدفع عنها أضرارها، وبما يواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، وأن عدم مجابهة التشريع وعدم مسايرته للتطورات التي تحدث في الدولة اقتصاديًا واجتماعيًا، إنما يخلق فجوة عميقة بين نصوص التشريع القائم والواقع العملي الذي تعيشه الدولة، الأمر الذي يعد بلا ريب إحدى عيوب التشريع. كما يجدر التنويه إلى أن دور التشريع الهام في تحقيق التنمية، لا يعني أن هناك قالبا ثابتا للتشريع وتحقيقه للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بل يجب أن تكون التشريعات بحسبها من أهم العلوم الاجتماعية متطورة مع تطور المجتمع، ومع ما يتناسب من احتياجاته.

ولكن هل يحدو بي الأمل بعد أن وافق مجلس النواب في مناقشته، أو عرضه الأول للقانون على صورته الأولى، وهو الأمر الذي يؤكد على موافقته عليه في عرضه على المؤتمر العام لمجلس النواب، أن أطلب من السيد رئيس الجمهورية إعمال حقه الدستوري في عدم التصديق على ذلك القانون المرتقب صدوره، أم أن الأمر غالب على المواطنين، وليس هناك بصيص في مساحة الحق في الصحة، وإعلاء المبادئ التي أرساها الدستور متماشيا مع الاتفاقيات الحقوقية.

فهل يتفق ذلك مع ما يُعرض في أروقة مجلس النواب من مشروع قانون، تقدمت به الحكومة بمنح التزام المرافق العامة لإنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية.