بدأت رحلة إسرائيل كدولة محصنة فوق المحاسبة، منذ نشأتها وعمقتها عوامل أخرى على مدار أكثر من 75 عاما، حتى أصبحت نموذج لا يحتذى لدولة فوق القانون والشرعية الدولية.

والحقيقة، أن مشكلة إسرائيل ليست فقط، أنها لم تحترم تقريبا كل قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، وكل ما له علاقة بالشرعية الدولية، إنما في وجود داعمين لممارساتها في الغرب، وخاصة في أمريكا.

فتاريخيا، تجاهلت الدولة العبرية منذ قيامها قرارات مجلس الأمن، واعتبرتها هي والعدم سواء، منذ القرار٥٧ الذي صدر في سبتمبر ،١٩٤٨ وأعرب فيه مجلس الأمن عن صدمته العنيفة لاغتيال وسيط الأمم المتحدة في فلسطين الكونت “فوللك برنادو”، ووصف من قام بهذا العمل بالجماعة المجرمة والإرهابية، (وهم من اليهود، ولكنه لم يسميهم)، كما لم تحترم إسرائيل القرار الشهير 242 الصادر في 1967،وطالب بضرورة انسحاب القوات المحتلة من الأراضي التي احتلت في حرب 1967، كما أصدر مجلس الأمن الدولي مؤخرا القرار رقم 2728، مطالبا بوقف مؤقت لإطلاق النار، لم تحترمه كما هي العادة إسرائيل.

أما محكمة العدل الدولية فلإسرائيل تاريخ غير مشرف في عدم احترام قراراتها، فقد أصدرت في 2٠٠٤، قرارا برفض بناء الجدار العازل، لم تطبقه إسرائيل، واستمرت في سياسة الفصل العنصري، وشيدت الجدار، تماما مثلما جرى مع ما طالبت به محكمة العدل الدولية، بأن تلتزم إسرائيل بحماية المدنيين في غزة، واعتبرت أن هناك شواهد، على أنها تقوم بإبادة جماعية، وطالبت بوقف الأعمال العسكرية في رفح وهو ما استمرت إسرائيل في القيام به، دون أن تعبأ بقرارات المحكمة.

من الواضح، أن الدولة العبرية عمقت وضعها ككيان فوق القانون، والشرعية الدولية، وأصبح لديها حصانة خاصة، ووضع استثنائي يضعها في كفة في مقابل باقي دول العالم، وهو أمر يجب فهم أسبابه قبل التعامل مع تداعياته الخطيرة على السلم والأمن الدوليين.

والحقيقة، أن هناك عدة أسباب وراء هذا الدعم غير المسبوق أولها، سبب ثقافي يعود إلى تعاطف كثير من “أهل الغرب” مع نمط حياة الإسرائيليين في مدنهم ومستوطناتهم، وأن كثيرا من نخبهم يعبرون عن ذلك بشكل علني ويرددون جمل من نوع “هم متحضرون مثلنا”، و “لديهم ديمقراطية مثلنا”، “انظروا لأزياء نسائهم”، وشكلهم في الشوارع والمطاعم والأحياء وحياتهم الاجتماعية، ثم يبدؤون في مقارنتهم بسكان أحياء غزة المكدسة، ووجوه سكانها ونمط حياتهم وثقافتهم العربية الإسلامية؛ ليقولون في النهاية، أن إسرائيل شبهنا وأعداؤها ليسوا شبهنا، وأحيانا يقولون عنهم أيضا، أنهم أعدائنا.
لقد استدعى الموقف التمييزي الفج لكثير من القادة الغربيين تجاه، ما يجرى في غزة مخزون كامن من الصراع الثقافي بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي، وأضعف من جهود كثيرة آمنت بالحوار الحضاري ودافعت عن التنوع الثقافي في العالم، وتمسكت بمبادئ المساواة والعدالة بين الشعوب، وهي التي غابت أمام بحور الدماء التي تسيل في غزة.

أما السبب الثاني، فهو سياسي واستراتيجي، فإسرائيل صنيعة الغرب وحليفته وهي أحد أدواته التاريخية في السيطرة على الشرق الأوسط، و”تأديب” كل من يحاول، أن يخرج عن “الطوع الأمريكي”؟، وهي دولة وصل عمق تحالفها بأمريكا، أن الأخيرة لا زالت مترددة في وقف شحنة سلاح يتيمة لإسرائيل، رغم تأكدها، أنها تستخدمها في قتل المدنيين الأبرياء، إلا أن تلك الخطوة الخجولة، لم تنل توافق أمريكي داخلي، ويرفضها الجمهوريون، ويعتبرونها تضر بأمن إسرائيل، أما نتنياهو فقد هاجم تلك الخطوة أمس بشدة، وقال كيف تفعل أمريكا ذلك مع دولة، تحارب الإرهاب نيابة عن العالم الحر!!.

إسرائيل تعتبر مهمتها في غزة؛ استكمال لمهام الاستعمار الغربي الفاشلة في القرون الماضية، وأيضا مهام أمريكا الفاشلة في العراق وأفغانستان، التي رفعت فيها شعارات الاجتثاث والقضاء على البعث في العراق وطالبان في أفغانستان، وتكررها إسرائيل الآن مع حماس، وانتهت بالنسبة للجميع بفشل مدوي.

إسرائيل تمثل الصورة الأسوأ، والأكثر دموية في التجارب الاستعمارية الحديثة، ولذا لا يستطيع الغرب وأمريكا تحديدا؟، أن تذهب بعيدا في انتقادها، لأنها بدرجة أو بأخرى امتداد لتجاربها الاستعمارية السابقة.
أما السبب الثالث، فيرجع لقوة اللوبي المؤيد لإسرائيل والحضور القوي للسردية الصهيونية وسط النخب الحاكمة في الغرب، وخاصة بين الدول الأقوى أي أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.
وقد أسس هذه اللوبي لسردية مركبة متعددة الأبعاد، اعتمدت في جانب على عقدة الذنب الذي يشعر بها بعض أهل الغرب، وخاصة في ألمانيا؛ نتيجة الجرائم التي ارتكبت في حق اليهود على يد النازي، واعتبروا أن لديهم مسئولية تاريخية تجاه حماية إسرائيل.

أما الجانب الآخر، فيتعلق بنجاح إسرائيل في تصنيع جماعات ضغط (لوبي)؛ لنشر روايتها التاريخية والسياسية، وهو ما غاب عن العالم العربي، فكثير من هذه الجماعات ليست تجمعات دينية مغلقة، كما يتصور البعض، إنما هي أيضا تجمعات ذات رسالة سياسية، تقول إنها تناضل ضد العداء للسامية؟، وتحارب العنصرية وخطاب الكراهية الذي يستهدف اليهود وغير اليهود.
ولعل هذا ما جعل العديد من الأحزاب اليمينية والحركات اليسارية، وكثير من الجمعيات المناهضة للتمييز العنصري في أوروبا، تبدي تعاطفا واضحا مع اليهود، وكثير من الجمعيات اليهودية؟، ليس بسبب “المؤامرة اليهودية”، كما يتصور البعض، إنما أيضا للدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة العنصرية والعداء للسامية، إلى أن جاءت حرب غزة، واتضح أن كثير من هذه الجماعات (وليس كلها)؛ هدفه الأساسي الدفاع عن إسرائيل، وتبرير جرائمها، وليس محاربة العنصرية.

يقينا العالم العربي لأسباب بنيوية، تتعلق بأزمة نموذجه السياسي والاقتصادي وغياب أي تجربة نجاح، أسست فيها للديمقراطية أو دولة قانون، كل ذلك عطل من حضور أي جماعات ضغط (إلا شركات العلاقات العامة المدفوعة الأجر) مرتبطة بالعالم العربي، وتعمل لصالح القضية الفلسطينية.

سيبقي حضور إسرائيل كدولة استثناء في العالم، ليس حدثا عابرا، ولا يعني أنها مجرد دولة “مخالفة” للقوانين الدولية، إنما هي كيان حليف بالمعني الثقافي والسياسي للدول الغربية الكبرى، وأيضا مدعوم من جماعات ضغط مسيطرة على المجال السياسي والاقتصادي والإعلامي.