في قانون العقوبات المصري، تنص المادة 162 على أن كل من هدم أو أتلف عمداً شيئًا من المباني أو الأملاك العامة أو المنشآت المعدة للنفع العام، أو الأعمال المعدة للزينة ذات القيمة التذكارية أو الفنية، وكل من قطع أو أتلف أشجارًا مغروسة في الأماكن المعدة للعبادة أو في الشوارع أو في المتنزهات أو في الأسواق يعاقب بـ”الحبس” وبغرامة، لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد عن خمسمائة جنيه. وبموجب هذا النص يحق لكثير من المصريين أن يتساءلوا عن متى تدخل الحكومة السجن جراء اجتثاثها للأشجار؟ وبالطبع فالأمر يتجاوز السؤال للتمني.
فبينما تستعد العديد من دول العالم للاحتفال بـ “يوم الشجرة”، الذي تم استحداثه، منذ قرون؛ لتشجيع البشر على زرعها والاعتناء بها، تواصل الأجهزة الحكومية في مصر حملة ممُنهجة وغير معروفة الأسباب؛ لقطع الأشجار واجتثاثها في شوارع غالبية المحافظات، ما يفتح الباب للتساؤل: هل يوجد للأشجار حقوق؟ وكيف تتقاطع مع حقوق الإنسان الأساسية؟
فقد أثارت موجة قطع الأشجار بمصر جدلاً وموجة من الأقوال على مواقع التواصل الاجتماعي حول الأسباب التي تنوعت بين تحويلها لفحم، وتصديره للخارج أو إزالة العناصر الجمالية من الشوارع، وجعلها قاصرة على الكمبوندات الجديدة؛ للتشجيع على الانتقال إليها، أو توسيع طرق وتركيب كاميرات مراقبة بالشوارع، أو تحاشي سقوط أفرع من الشجر القديم على الطرق؟ وأخيرًا استبدالها بأشجار جديدة مثمرة ذات عائد اقتصادي.
في ثلاث سنوات فقط (2017 ــ 2020)، تراجعت المساحات الخضراء في العاصمة المصرية بنحو 910 آلاف متر مربع من 7.8 ملايين متر مربع في 2017، إلى 6.9 ملايين متر مربع في عام 2020، وذلك بحسب بيانات صادرة عن مركز حلول للسياسات البديلة التابع للجامعة الأمريكية في القاهرة.
كما تراجعت أعداد الحدائق والمنتزهات العامة في عموم مصر؛ لتسجل 1358 حديقة في عام 2022، انخفاضًا من 2600 في عام 2014، بينما يصل متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء في المحافظات المصرية 17 سنتيمترا فقط من المساحات الخضراء، وفقًا للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
لا يوجد بالدولة– وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن جهاز الإحصاء- سوى 5.370 مليون متر مربع فقط من المساحات الخضراء، تتنوع بين حدائق نباتات ومتنزهات عامة بخلاف حديقتيّ “الحيوان والأسماك”، وما بهما من أشجار كثيرة ومساحات خضراء، وذلك قبل موجة قطع الأشجار الأخيرة، ما يجعل نسبة المواطن المصري من “الخُضرة” الأقل عالميًا.
كيف يضر قطع الشجر بحقوق الإنسان؟
كانت محافظة القاهرة أكثر المحافظات التي تعرضت لقطع الأشجار بها، رغم أن كل أحيائها تفتقر للحد الأدنى من الغطاء الأخضر، ما يضر قاطنيها فيما يتعلق بحق الصحة وحق العيش ببيئة نظيفة، فعن طريق دراسة درجات الحرارة القصوى، والكثافة السكانية، والفئات الأكثر هشاشة (السكان الأكبر من 65 سنة، والأطفال تحت 5 سنوات)، ومستويات الفقر في كل حي، كانت النتيجة أن 13 من أصل 46 منطقة في القاهرة معرضة لمخاطر مرتفعة، أو مرتفعة جداً من التعرض لموجات الحرارة.
يتعارض قطع الشجر أيضًا مع حق الإنسان في بيئة نظيفة، فالقاهرة احتلت الترتيب التاسع عالمياً في قائمة المدن الأكثر تلوثاً للهواء، بحسب موقع «أي كيو آير»، ويعتمد التصنيف على معيار نسبة وجود جسيمات (بي إم 2.5) في الهواء، وهي عبارة عن جسيمات دقيقة، يبلغ قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر، وهي وحدة طول تساوي جزءاً من الألف من المليمتر.
تشير دارسة الموقع، أن فتح نافذة السيارة يعرض الركاب لتركيزات أعلى من جسيمات “بي إم 10” بنسبة 64%، وجسيمات “بي إم 2.5” بنسبة 48%، مقارنة بنفس الوضع، إذا تم إغلاق النافذة وتشغيل مكيف الهواء في السيارة، وأن ساعات الذروة المسائية هي الأكثر ازدحامًا، وتسبب التعرض لتركيزات أعلى من هذه الجسيمات، إذا ما قورنت بساعات الذروة الصباحية، وجزيئات “بي إم 10” صغيرة جدًا موجودة في الغبار والدخان. يبلغ قطرها 10 ميكرومتر (0.01 مم) أو أقل.
يمثل تلوث الهواء خطرًا مباشرًا على الصحة العامة، فهو سبب لفقدان نحو عامين في المتوسط من عمر كل مواطن مصري؛ بسبب الاعتلال أو الإعاقة الصحية، ووصلت أعداد الوفيات المبكرة في مصر؛ بسبب تلوث الهواء 90559 حالة عام 2019 ، كما كان تلوث الهواء السبب في أكثر من 12٪ من إجمالي الوفيات في مصر خلال عام 2017.
أكدت المهندسة المصرية أسماء الحلوجي، رئيسة “جمعية محبي الأشجار”، أن هناك كميات مهولة جدا من الأشجار، تم قطعها، حيث تبلغ 311 ألف متر مربع في مدينة نصر و72 ألف متر مربع في مصر الجديدة، مضيفة أن الدراسات العلمية تؤكد، أن الشجرة الواحدة تمتص 1.6 كيلو جرام من الملوثات الدقيقة، والرفيعة التي تؤثر علي التنفس، كما أن الشجرة توفر لنفسها المياه وتقلل عملية تبخر المياه وتمنع التصحر.
هل للشجر حقوق؟
ارتباط حقوق الإنسان بالأشجار دفعت دول العالم المتقدم، وحتى الدول النامية والفقيرة للاهتمام بها، فشهر يوليو القادم على سبيل المثال، يشهد احتفال المكسيك باليوم الوطني لغرس الأشجار في ثاني خميس من يوليو، وجمهورية إفريقيا الوسطى (22 يوليو)، وأستراليا (28 يوليو)، وهو تكرار تقليد بدأته قرية موندونيدو الإسبانية منذ عام 1594، حينما نظمت أول مهرجان موثق لزراعة الأشجار في العالم.
وتوجد حالة من الجدل حول حقوق الأشجار، لكن بعض الدول مثل الإكوادور أعلنت أن كل الطبيعة أو “الأرض الأم” تمتلك حقوقًا قانونية في تعديل دستوري، كما منحت نيوزيلندا وضعًا قانونيًا لإحدى الغابات، وكذلك الهند لنهري الجانج ويامونا، كما فعلت كولومبيا الشيء نفسه مع الأمازون.
من الناحية القانونية، رفعت الكاتبة العلمية إليزابيث كولبيرت دعوى قضائية بسبب تقلص مساحة بحيرة فلوريدا تحت ضغط شديد من المطورين جنبًا إلى جنب مع بحيرات أخرى مهددة بالانقراض، وفي عام 2019، اكتسبت بحيرة إيري بأمريكا الشمالية أيضًا الشخصية القانونية، كما حصل الماعز البري على حكم بالرعي على آخر قطعة متبقية من موطنه في هاواي، وفي عام 2021، اعترفت محكمة أمريكية بأفراس النهر كشخصية قانونية.
أصدر المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان والبيئة عام 1994 تقريرًا مهمًا عن العلاقة بين حقوق الإنسان والبيئة، مما جعل الارتباط بين انتهاكات حقوق الإنسان والأضرار البيئية أكثر وضوحاً مما كان عليه من قبل على المستوى الرسمي إذ أكد أن “الحقوق البيئية هي حقوق إنسانية، لأن سبل عيش الناس، وصحتهم، وأحيانًا وجودهم ذاته تعتمد على جودة البيئة المحيطة وقدرتهم على الوصول إليها، فضلاً عن الاعتراف بحقوقهم في الحصول على المعلومات، والمشاركة، والأمن والتعويض”.
تزايد موجة الاهتمام بحقوق الأشجار مع تنامي اهتمام نشطاء “حقوق الإنسان” ودعاة حماية البيئة واشتراكهم معًا في الكثير من الأمور: الرغبة في جعل العالم مكاناً أفضل؛ وعدم الثقة في الرأسمالية كوسيلة لتحقيق هذه الغاية؛ والالتزام النشط بتحقيق التغيير في مواجهة الاحتباس الحراري؛ والشعور العميق بالشفقة والتعاطف تجاه “الأشياء غير البشرية”، وهو مصطلح يطلق على البيئة.
تتحول التعاريف القانونية الدولية بشكل خفي لحل الفصل بين البشر والطبيعة، حيث تتحرك القوانين التي تحكم تصرفات الإنسان نحو الاعتراف بـ “الشخصية البيئية”، وفي الفكر الغربي التقليدي، يمثل هذا إعادة صياغة جذرية حيث كان الناس، وليس “الأشياء”، يتمتعون حتى الآن بكل الحقوق. ولكن لكي يحدث هذا التحول، يجب أن تتمتع الطبيعة بـ “مكانة قانونية”.
تعطي بعض الدول حقوقا للأشجار، تصل إلى عدم جواز قطع شجرة “ذابلة” في حديقة المنزل إلا برخصة من البلدية بعد فحصها، والكشف عليها من مهندس غابات متخصص وعمل تقرير مفصل عن حالتها، ومدى إمكانية علاجها، وهل يجب الحفاظ عليها وعدم قطعها أو ماتت، ويمكن إعطاء رخصة بقطعها، وبعد الحصول على رخصة قطع الشجرة، المالك مُلزم بزرع شجرة ناضجة محل الشجرة المقطوعة.
ما وضعية الأشجار بالقانون المصري؟
تنص المادة 45 من الدستور المصري، على أن تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية، ويحظر التعدي عليها، أو تلويثها، واستخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون.
تقضي المادة 46 من الدستور، على أن لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة وحمايتها واجب وطني، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة؛ للحفاظ عليها وعدم الإضرار بها والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية، بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة وضمان حقوق الأجيال القادمة فيها.
ويهتم قانون البيئة المصري الصادر عام 1994، بالمساحات الخضراء،، فجاء النص في المادة 27، على أن تخصص في كل حي وفي كل قرية مساحة لا تقل عن ألف متر من أراضي الدولة؛ لإقامة مشتل لإنتاج الأشجار، على أن تتاح منتجات هذه المشاتل للأفراد والهيئات بسعر التكلفة. وتتولى الجهات الإدارية المختصة التي تتبعها هذه المشاتل إعداد الإرشادات الخاصة بزراعة هذه الأشجار ورعايتها، ويسهم جهاز شؤون البيئة في تمويل إقامة هذه المشاتل.
وفي قانون العقوبات، تنص المادة 162 على أن كل من هدم أو أتلف عمداً شيئًا من المباني أو الأملاك العامة أو المنشآت المعدة للنفع العام، أو الأعمال المعدة للزينة ذات القيمة التذكارية أو الفنية، وكل من قطع أو أتلف أشجارًا مغروسة في الأماكن المعدة للعبادة أو في الشوارع أو في المتنزهات أو في الأسواق يعاقب بالحبس وبغرامة، لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد عن خمسمائة جنيه. وبموجب هذا النص يحق لكثير من المصريين أن يتساءلوا عن متى تدخل الحكومة السجن جراء اجتثاثها للأشجار؟
كما تنص المادة 367 من قانون العقوبات أيضًا، على أن يعاقب بالحبس مع الشغل كل من قطع، أو أتلف زرعًا غير محصود أو شجراً نابتًا أو مغروسًا أو غير ذلك من النباتات، و كل من أتلف غيطًا مبذورًا أو بث في غيط نباتًا مضرًا، وكل من اقتلع شجرة أو أكثر أو أي نبات آخر، أو قطع منها أو قشرها ليميتها وكل من أتلف طعمة في شجرة.، ويجوز جعل الجناة تحت ملاحظة البوليس مدة سنة على الأقل وسنتين على الأكثر.