بعد ساعات قليلة، تحتفل مصر الرسمية وبعض مصر الشعبية بذكرى 30 يونيو 2013، بالطبع المحتفلون يعتبرونها ثورة، ينطبق عليها كل شروط الثورة، أما الإخوان وأتباعهم؛ فيعدونها انقلابا مكتمل الأركان، وبين هذا وذاك، تقف الغالبية التي يزيد عددها عاما بعد عاما؛ لتكشف أن ما حدث كان حصاده الأساسي هو جلب الاستقرار والأمن للدولة المصرية.
بالطبع الكثيرون من الناس ينظرون إلى الاستقرار، باعتباره نعمة كبيرة، وهو دون شك كذلك، خاصة لمن ينظر حوله لدول الربيع العربي الأخرى التي أنهكها الاقتتال الداخلي؛ بسبب قيام الثوار بالهدم، دون أن يكون لهم هناك خطة للبناء، فصارت سوريا واليمن وليبيا وتبعتهم السودان إلى ما صارت إليه.
وسط كومة من الأحداث والزخم الكبير، كادت البلاد أن تضيع، وتندثر هويتها؛ بسبب أحداث العنف والإرهاب التي أسفرت، عما أسفرت عنه، خاصة في سيناء التي كادت أن تكون لهؤلاء محط انطلاق إلى غرب القناة، لكن ودون التقليل من أهمية الأمن والاستقرار، هل كان النجاح في باقي الملفات ملفتًا بعد11 عامًا من حركة 30 يونيو 2013؟
سؤال مهم، وتتكشف أهميته يوما بعد يوم، فالمؤرخون مردوا على قراءة التاريخ بشكل أعمق، كلما مر الوقت، وكلما سمح مناخ الحرية بالنقد.
ما من شك، أن هناك الكثير مما تحقق إلى جانب الأمن والاستقرار، لكنه كان مكلف للغاية ومجهد للدولة والمجتمع على حد سواء. فالقضاء على العشوائيات والتخطيط العمراني ونشأة مدن جديدة، ودعم شبكة الطرق والمواصلات، والبحث الجدي عن بدائل لشح المياه، وزيادة رقعة الأرض الزراعية، وتقوية جيش البلاد، ومشروعات الإسكان والخدمات الاجتماعية الكبيرة التي قادت القرية المصرية لنقلة وحياة كريمة حقيقية، واسترداد السياحة لعافيتها، ورفع الدولة أسعار توريد القمح من الفلاح في العام الحالي مقارنة بسعره العالمي، وتطوير توشكى، كلها أمور ما من شك، أنها مثلت قفزة مهمة في التطور الاجتماعي في مصر.
لكن وكما قيل، فإن تلك الإنجازات قوبلت بانتكاسات وتكلفة عالية، لا سيما وأن البلدان التي كانت تمد مصر بالمساعدات إبان حقبة مبارك باتت تضن وتقدر. بل أنها سعت لاستغلال أوضاع الاقتصاد المصري الذي يزداد وضعه سوء، لكونها تدرك أن هذا السوء سيعود بالسلب على قيمة العملة المصرية، ومن ثم سيجبر السلطة التي ركضت خلف روجتة صندوق النقد الدولي؛ لتخفيض قيمة العملة، ومن ثم الاضطرار إلى بيع الأصول تحت لافتة تشجيع الاستثمار الأجنبي بأثمان بخسة، وقد وصل الأمر منذ أسابيع قليلة لسن قانون لتأجير مستشفيات الدولة لمستثمرين أجانب وغيرهم في خرق واضح للدستور، ولخطط التأمين الصحي الذي أقره الدستور، رغم أن الحكومة قد بدأت في تنفيذه، وأوصى الحوار الوطني بتعميمه بشكل قطاعي لا جغرافي.
ما من شك، أن واحدا من أبرز الأمور التي ابتلي بها الاقتصاد المصري هو انخفاض الاستثمار المحلي وقلة التشغيل، وهو ما أثر سلبا على الصادرات، ومن ثم شح مصادر العملة الأجنبية، واقتصارها على الموارد التقليدية كقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج والسياحة. وحتى بالنسبة للمصدرين الأول والثاني، فقد أصابهما الوهن لأسباب، تتعلق بحرب غزة في الأول أو بعدم استقرار قيمة العملة المحلية بالنسبة للمصدر الثاني. هذا بالطبع أثر سلبا على الهدف الذي أعلن عنه رئيس الدولة، منذ سنوات قليلة وهو صادرات سنوية تبلغ قيمتها 100 مليار دولار، وهو ما لم يتحقق، حتى نصفهـا رغم كون بلدان أكثر شبها بنا بالنسبة لعدد السكان كفيتنام وتركيا، تجاوزت صادرات كل منهما الـ 200 مليار دولار.
الموازنة المصرية وعجزها أرهقها، دون شك الدين الخارجي الذي تسببت فيه بالأساس دعم البنية الأساسية، وعلى رأسها الطرق والمحاور والمواصلات التي أنفق عليها ما فوق الـ 2 ترليوني جنيه، أملا في جذب وجلب استثمار، لم يكن بالقدر المأمول على الإطلاق؛ بسبب الظروف والأوضاع السياسية وعلى رأسها رأس السلطة التنفيذية بحكم الدستور في تعيين رؤساء الهيئات والجهات القضائية، وهو أمر يشغل بال أي مستثمر أجنبي، ويهتم به قبل أن يشرع في القدوم للبلاد للاستثمار فيها.
هناك لا شك انتقادات كثيرة وحقيقية، ترتبط بما يقوله دوما صندوق النقد الدولي، رغم خلاف الكثيرين على اتباع روجتته، وهو ما يرتبط تحديدًا بعدم توحيد الموازنة العامة، بسبب هيمنة مؤسسات سيادية على أوضاع اقتصادية، ما يجعلنا كما يقول الصندوق أمام حالة ازدواج حسابي.
الظروف الاجتماعية المرتبطة بالدخول والرواتب وارتفاع الأسعار والتضخم الكبير، خاصة في أسعار الغذاء، واحدة من أبرز الأمور التي ترهق الغالبية من أبناء الطبقتين المتوسطة والدنيا. فمن تضخم قدر نسبته الجهاز المركزي للتعبئة العامة والأحصاء عام 2013 بـ 10,3% إلى 36,5% في منتصف العام الماضي، وفقا لبيانات البنك المركزي. بالطبع لم تجد السلطة بدا من تعليق شماعة التضخم على أحداث غزة، كما علقتها من قبل على الحرب الروسية الأوكرانية وقبلها كوفيد19، لكن ما هو مؤكد أيضا، أن بلدان أكثر تأثرا بتلك الأحداث منها روسيا وأوكرنيا ذاتها، لم يطالها هذا الارتفاع الكبير لنسب التضخم!!
واحد من الأمور الخطيرة التي تعثرت فيها 30 يونيو، وما تلاها هو عدم الاهتمام على الإطلاق بفقه الأولويات، والاعتماد على خلية ضيقة جدا في تحديد، ما سيجري تنفيذه، مع إهمال وعدم النظر لأية انتقادات، تطال الانغماس في مشروعات عملاقة مكلفة كالعالمين الجديدة والعاصمة الإدارية، بل أن هناك بعض المشروعات أدركت السلطة في مصر، منذ أشهر قليلة، أنها لا طائل منها، فأعلنت الحكومة- التي كان رؤساؤها ووزراؤها أغلب الوقت الفائت مجرد منفذين لسياسات- وقف نزيف الصرف عليها، حتى لا يزداد الاقتراض، وأحيانا لعدم جدواها مثل، مشروع تبطين الترع المتوقف اليوم دون اكتمال.
أكثر ما يغضب الناس هو إهمال أوضاعهم المعيشية اليومية. فما من شك أنهم يعيشون في قلق كبير، كلما مست السياسات المتخذة حياتهم وأبنائهم، أكثر الأمور مدعاة للقلق الأرتفاع الربع سنوي تقريبا في أسعار المحروقات، والأرتفاع المتوالي في أسعار الكهرباء والغاز، وزيادة تعريفة مترو الإنفاق. قبل 25 يناير2011، كان النظام لا يغمض له جفن عشية زيادة أسعار تلك السلع أو الخدمة 5 قروش فقط، خشية من رد الفعل، اليوم الزيادة بالجنيه، ودون أي اهتمام بأثرها على الفقراء. وزادت الأمور وطأة بانقطاع الكهرباء المتواصل في فصل الصيف في العامين الحالي والماضي؛ بسبب مشكلات كبيرة في سداد فواتير تشغيل محطات الكهرباء عبر الغاز، أو المازوت، رغم أن تصريحات السلطة منذ سنوات قليلة، أشارت إلى اكتفاء الحقول المكتشفة لأجيال، فرفعت بذلك سقف التوقعات والطموح للمواطنين، وإذ بها تهوي بهم إلى الأسفل. نفس مشكلة الغاز المرتبط بالكهرباء، تتصل بمشكلة الغاز المتصل بشح الأسمدة التي يعاني منها الفلاح، فرغم ارتفاع ثمن شكارة الكيماوي، منذ عام تقريبا؛ لتصل إلى 260 جنيها، أصبحت السوق السوداء هي الحكم الرئيس في حصول الفلاح عليها، بما يزيد عن ضعف ثمنها؛ بسبب شح الغاز وسياسة الدولة تجاه الشركات المنتجة!!
كل ما سبق لم يخلو من تراجع، عما كانت عليه أحوال وآمال حراك 25 يناير2011، فعقب حراك 30 يونيو، تم تعديل الدستور مرتين؛ ليشكل تراجعا في بعض الأمور سواء في مسألة مدة الرئاسة أو إقرار نظام انتخابي شائه، أفضى عمليا لتغيير إرادة الناخبين سمي بالقائمة المطلقة، وهو في الأخير عبارة عن شبة تعيين أو تزكية لجزء معتبر من أعضاء مجلس النواب، وهو ما أسفر عن خلق برلمان طيع، يحكمه حالة خلل بين في العلاقة مع السلطة التنفيذية بشكل أسوء، مما كان عليه الحال إبان حقبة مبارك، كما أقر بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري. وفي أرض الواقع احتاج المجال العام اليوم إلى قرارات كثيرة، لتصويب ما حدث على الأرض. فالحبس الاحتياطي في القضايا السياسية وتدوير الموقوفين فيه صار سمة، ولم تعالج قرارات رئيس الجمهورية بالعفو عن المسجونين في قضايا الرأي، بقاء المشكلات المرتبطة ببقاء الرقابة على المواقع الإلكترونية، والحجر على الكثير من منابع حريات الرأي والتعبير، كما تدخلت مؤسسة أمنية بعينها- كانت تاريخيا معنية فقط بأمن مصر المائي وبإسرائيل- في كل كبيرة وصغيرة في الشأن الداخلي، وأصبحت الأحزاب السياسية في وضع لا تحسد عليه، بعد أن أصابها الوهن؛ جراء أوضاعها الداخلية التي لم تلق بالاُ لتطوير أو تفعيل أداء، ناهيك عن سياسات تهميش، كان أخرها العودة للانقسامات الأولية البدوية في عصر المعلومات والفضائيات بخلق اتحاد قبائل كفاعل سياسي في الساحة. إضافة إلى كل ذلك، بيعت عديد القنوات الفضائية لمؤسسات سيادية تحت عباءة شركات مدنية لتأميم الإعلام، كما تمت وضع عراقيل لكل جاد يتقدم للترشيح في انتخابات الرئاسة خلال الأعوام 2018 و2024، وهو وضع لا شك، أنه سيسفر عن حالة فراغ في انتخابات 2030 التي يتطلب لها مرشحون جدد بشكل كامل، لا يخافون من التقدم للترشيح. إضافة إلى كل ذلك لم تعلن الهيئة الوطنية للانتخابات نتائج انتخابات الرئاسة الأخيرة على مستوى المراكز والأقسام الإدارية، كما تفعل في كل انتخابات، وذلك حتى تبرر للناس نسبة المشاركة الضخمة وغير العادية في الاقتراع. كما أهملت الحكومة الغالبية العظمى من مخرجات الحوار الوطني في كافة المجالات، ولم تشرع السلطة في عقد انتخابات المحليات المعلق،ة منذ نهاية حقبة مبارك، وأحكمت من خلال تعيين عديد العسكريين المتقاعدين كمدراء للمدن والمراكز، كما فعلت في الهيئات القومية المختلفة في ربوع الجمهورية.
في العام القادم، وفي الذكرى الـ 12 للثلاثين من يونيو، يأمل أن تعالج كافة تلك الأمور والنواقص السابقة، بحيث يتم القفز إلى الأمام على كافة الأصعدة.