كان الصدام في (30) يونيو (2013) محتما.
هذه حقيقة، لا يصح إنكارها بخداع النفس والآخرين.
اصطفت قوى، وتصادمت تصورات، ولاحت في المشهد العام المأزوم أشباح الاحتراب الأهلي.
وهذه حقيقة أخرى، لا يمكن نفيها بالتدليس على التاريخ.
الخلط العشوائي بين الأسباب والتداعيات، يفضي إلى التشويش على الذاكرة الوطنية، والتجهيل بما حدث فعلا.
بقوة الحقائق، انكسرت تماما الرهانات الكبرى، التي صاحبت احتجاجات (30) يونيو المليونية.
مصر مأزومة في صميم وجودها، بيئتها العامة مسمومة وأزماتها الاقتصادية على حافة الخطر الداهم.
لا تحولت إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، ولا تأسست فيها دولة قانون ومؤسسات.
من يتحمل المسئولية؟
إنها السياسات والأولويات الحالية.. لا التحركات الشعبية، التي عمت المدن والقرى في ذلك اليوم.
نفي الحق في الغضب جريمة تاريخية متكاملة الأركان، حيث تخلط الأوراق وتقلب الحقائق، وتنفي أي سياق، وتمنع تعلم أي درس.
أرجو أن نتذكر، أن “عام الإخوان” كان كارثيا، فالحكم فشل بصورة ذريعة في إدارة الدولة، وغلبت شهوات التمكين التزاماته تجاه مواطنيه، تدهورت مستويات المعيشة وانسد أفق الحياة، وبدت القوى التي أيدت الجماعة “مصدومة” في صدقيتها والوعود التي تنكرت لها.
لم تعتذر الجماعة عن الأخطاء والخطايا التي ارتكبت، ولم تتوقف عن نسبة نفسها إلى ثورة “يناير”، حيث كانت أول من أجهضها.
لم تكن “يونيو” أول ثورة مصرية تُجهض وتُختطف جوائزها.
“يناير” تعرضت لنفس المصير في ظروف وملابسات أخرى.
هكذا اختطفت في سنوات قليلة ثورتان، هما بالتعريف الدستوري ثورة واحدة، الأولى- من جماعة “الإخوان المسلمين”.. والثانية- من الماضي الذي ثار عليه شعبه.
لم تكن “يناير” مؤامرة، بقدر ما كانت صراعا مفتوحا على المستقبل، توافرت أسبابه في انسداد القنوات السياسية والاجتماعية، وتهميش دور مصر في عالمها العربي، فضلا عن “مشروع التوريث”، وزواج السلطة بالثروة، وتفشي الفساد وارتفاع منسوب الدولة الأمنية.
لا يعنى اختطاف “يناير” نفي شرعيتها، وإلا فإنه تدليس على التاريخ.
بذات القدر لا يمكن النظر إلى ما جرى في (٣٠) يونيو، من احتجاجات وصدامات وتظاهرات مليونية خارج سياق الصراع على المستقبل.
أرجو ألا ننسى الحقائق، وإلا فإنه تدليس آخر على التاريخ.
على الرغم من أية إحباطات وانكسارات في الروح والسياسة والمجتمع، فإن التاريخ هو التاريخ.
الشعوب الحية تراجع تجاربها، حتى تعرف أين كانت الأخطاء القاتلة التي تفسر الانكسارات، غير أن أسوأ مراجعة نزع شرف الثورة عن المجتمع المصري.
لم يكن ممكنا، أن تحدث “يونيو”، إذا لم يكن المجتمع المصري قد تسيس في “يناير”، واكتسب حقه في التعبير عن نفسه بالتظاهر السلمي.
فصل “يونيو” عن جذرها الأم، هو بذاته مؤامرة على الثورة- إذا صح حديث المؤامرات.
بذات القدر، فإن التنكر لـ “يونيو” هو خيانة لـ”يناير”- إذا صح حديث الخيانات.
هناك فارق جوهري بين شرعية الثورة، وما انتهت إليه.
أرجو ألا ننسى، أن طلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة هو صلب (٣٠) يونيو.
الشرعية التاريخية هنا بالضبط، ولا توجد شرعية أخرى.
نفي طبيعة الصراع في “يونيو” مشروع تكرار لأخطاء الماضي بصورة أكثر كارثية.
لم يكن الصدام أمرا عارضا، يمكن تجنبه، فهو على طبيعة الدولة- دينية أم مدنية؟
بدأت المواجهة مبكرا في أجواء الاستفتاء على التعديلات الدستورية (مارس ٢٠١٣).
رغم أن التعديلات المستفتي عليها، لم تكن لها أية صفة دينية من قريب أو بعيد، إلا أن الفرز الطائفي بدأ والاحتقانات تصاعدت.
كانت تلك جريمة كبرى بحق الثورة، وطلبها للحرية والعدالة وتأسيس نظام جديد، يلتحق بعصره.
شاركت أطراف عديدة في حرف الثورة عن مسارها الطبيعي، والدخول في نفق، لم يكن منه مخرجا.
تقاسمت الأخطاء الجماعة الأكثر قوة وتنظيما، بظن أن الفرصة حانت لـ “التكويش” على السلطة بمفردها، والمجلس العسكري الذي ذهب لاستفتاء، لم يكن له ضرورة، قبل أن يدمج نتائجه في إعلان دستوري، تضمن بنودا كثيرة أخرى.
تواصلت النُذر من إجراء انتخابات بلا دستور وإقصاء القوى المدنية إلى حصار المحكمة الدستورية العليا، ومدينة الإنتاج الإعلامي ومحاولة “أخونة الشرطة”، والتحرش بالجيش، حتى وصلت ذروتها في إعلان دستوري، يضفي صلاحيات مطلقة على رئيس الجمهورية، رغم أنه لم يكن من حقه إصداره، ووضع دستور جديد يؤسس لدولة دينية.
كان الصدام محتما وأي احتمال آخر، لم يكن ممكنا.
في “يونيو”، كما في “يناير”، دخلت أطراف أخرى على الخط، وتداخلت اعتبارات ومصالح واستراتيجيات إقليمية ودولية.
لا تجرى الثورات في معامل كيمياء.
الاختطاف أحد سيناريوهاتها المحتملة، إذا افتقدت القيادة والرؤية، أو اختلت موازين القوى وضاعت الأهداف الرئيسية في زحمة البحث عن فتات مصالح.
ذلك ما حدث مرتين.
بكلام آخر شرعية “يونيو”، تعرضت لضربتين قاصمتين من اتجاهين متعارضين.
الأولى، بالسياسات التي استدعت الماضي مجددا وشيوع روح انتقامية من “يناير”، وتضييق المجال العام أمام حركة المجتمع، وتنحية السياسة وتأميم الإعلام، وتبني خيارات اجتماعية، دفعت بمقتضاها الطبقة المتوسطة والفئات الأكثر عوزا فواتير الإصلاح الاقتصادي، دون أي عدل في توزيع الأعباء، حتى وصلنا إلى انقطاعات الكهرباء لثلاث ساعات يوميا، وشيوع الضجر العام إلى مستويات منذرة.
تبدت شروخ (30) يونيو مبكرا في الصدام مع الأجيال الجديدة، والعمل على كسرها، كما كتبت حرفيا في (2) ديسمبر (2013).
كان إصدار قانون التظاهر بقيوده الغليظة والمشددة داعيا للتساؤل، إذا كنا بصدد إعادة إنتاج الدولة الأمنية التي تتدخل في البحث العلمي، وحركة الاقتصاد وعمل الوزارات، ويخضع لتعليماتها جهاز الدولة كله.
والثانية، بمشاعر الإحباط، التي وصلت إلى ما يشبه الكآبة العامة في البيئة المحتقنة.
تعرضت أحداث (٣٠) يونيو إلى التشويه المنهجي من طرفين متناقضين.
هناك من أفرط في توظيفها بدواعي الدعاية.. ومن أفرط- بالمقابل- في تشويهها بدواعي الانتقام.
الأول- حول أحداثها إلى شرائط دعائية تعادي في الجوهر “يناير”، وتلغي شرعيتها، التي تستمدها من كونها استئنافا، لما سعت إليه الثورة الأولى في طلب دولة الحرية والعدالة.. دولة القانون والمؤسسات.
والثاني- تصور أن نفي طابعها الشعبي يعفيه من مسئولية تعطيل المسار الديمقراطي، وأن انكسار رهاناتها، ينفي عنه فشله في الحكم، وترويع القوى المدنية بقوائم سوداء للإعلاميين والسياسيين وقوائم اعتقالات، كانت جاهزة، إذا ما فشلت تظاهرات (٣٠) يونيو.
إذا ما جرى تجاهل حقائق ذلك اليوم، فإننا نظلم التاريخ، ونظلم المثقفين الذين غضبوا، وتوحدوا وواجهوا الموقف الصعب في اعتصام وزارة الثقافة، ونظلم الحركة الجماهيرية باتساع البلد كله التي سقط منها ضحايا وشهداء، حتى لا يتحول إلى دولة دينية، تستبد بها جماعة واحدة، ونظلم القوى المدنية التي توحدت، بقدر ما تستطيع لدرء الأخطار المحدقة.