ستدخل فرنسا مرحلة جديدة من تاريخها السياسي في حال نجح حزب أقصى اليمين، (التجمع الوطني) بالفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة، صحيح أن انتخابات الأحد القادم ستكون الجولة الأولى، ولكنها ستعطي مؤشرات حاسمة عن الحزب والتيار القادر على تشكيل الحكومة، والفوز في الانتخابات، وأيضا شكل الحكم القادم في فرنسا.

والحقيقة أن المشهد السياسي في فرنسا سيذهب إلى صورة جديدة، تختلف عما جرى منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام ١٩٥٨، على يد الجنرال ديجول، والتي تشكل نظامها الحزبي حول ثنائية اليمين واليسار.

والحقيقة أن أول مظاهر هذه الانتخابات، أنها أنهت المسار الاستثنائي الذي حاول، أن يفرضه الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون”، حين أعلن منذ ٨ سنوات عن نهاية ثنائية اليمين واليسار في فرنسا، وبنى تيارا “على الموضة”، وقال إنه لا يميني ولإيساري، وذهب إلى الناخبين في القرى والمدن؛ ليستمع إلى مشاكلهم، وصاغ برنامجه على ضوء ما سمعه منهم، وأعلن بعدها عن تأسيس حزبه “فرنسا للأمام”، الذي حصل على أغلبية كبيرة في البرلمان الفرنسي.

وقد تراجعت شعبية الحزب مع الوقت لسببين: أولهما، أداء ماكرون نفسه الذي بدا متعاليا على الناس، وبعيد عن مشاكلهم الحقيقة، رغم أن فكرته الأولى كانت قائمة على تأسيس حزب نابع من الاستماع لمشاكل الناس، لكنه عمليا وبسياساته فاقم مشاكل الناس. أما السبب الثاني، فهو سطحية فكرة، أن يقرر رئيس إنهاء ثنائية سياسية راسخة في المجتمع الفرنسي، والعالم منذ قرون، وتبلورت بصورة واضحة وسلمية في عهد الجمهورية الخامسة، وهي الانقسام بين اليسار واليمين، فتعريف ماكرون لنفسه ولتياره، بأنه لا يميني ولا يساري، باتت أقرب للتلفيق، ولم تعد لها دلالة في الواقع بعد البريق الذي أخذته في البداية، فالرجل نفسه كان وزيرا في حكومة الرئيس “فرانسوا هولاند” الاشتراكية، ثم صنفت سياساته طوال مدته الرئاسية الأولى، أنها سياسات يمينية، أفقرت قطاعات من الفرنسيين، وأضعفت من قوتهم الشرائية، وبالتالي فقدت فكرته التي تقول، إنه المنقذ والمؤسس لمشروع سياسي جديد بريقها في الممارسة العملية.

أما المظهر الثاني، في هذه الانتخابات فيتمثل في عودة ثنائية اليمين واليسار؛ لتسيطر على مشهد الانتخابات، ولكن هذه المرة في صورة أقصى اليسار وأقصى اليمين، صحيح أن يسار الوسط ممثلا في الحزب الاشتراكي عاد بريقه في الانتخابات الأوربية الأخيرة، وحصل على ١٤٪ من الأصوات، بعد أن كانت قوته لا تتجاوز ٤٪، إلا أن الحضور القوي لأقصى اليسار (فرنسا الأبية) يجعل هناك انقسام في معسكر اليسار نفسه بين تيارين قويين: يسار الوسط وأقصى اليسار.

أما اليمين فقد اتجه بقوة نحو أقصى اليمين، خاصة بعد أن تحالف رئيس الحزب الجمهوري ممثل يمين الوسط الديجولي مع أقصى اليمين، وأثار انقسامات داخل حزبه ودعاوى بسحب الثقة منه، ومع ذاك أبطل الرجل قضائيا هذه المحاولات لحين عقد مؤتمر الحزب، وقدم ٦٢ مرشحا متحالفين مع حزب أقصى اليمين.

ستدخل فرنسا هذه الانتخابات، وهي تعيش استقطاب اليمين واليسار، لكنه هذه المرة يمثل الطبعات المتطرفة من هذه الثنائية، فيسار فرنسا الأبية ليس مثل اليسار الاشتراكي الديمقراطي، إنما هو يذكرك بتنظيمات أقصى اليسار في فرنسا في القرن الماضي، حتى لو كان أكثر حضورا وتنظيما، أما اليمين فذهب نحو أقصى اليمين، وبات يحمل خطابا مغلقا، وموقفا متشددا من الهجرة والمهاجرين، لا يخلو من مفردات عنصرية أو على الأقل تمييزية على خلاف اليمين الديجولي، الذي كان في الحكم معظم فترات الجمهورية الخامسة، وأفرز زعماء كبار مثل بومبيدو، وجاك شيرك، وحزب قوي (الاتحاد من أجل الجمهورية)، واتسمت سياساته بالتسامح والانفتاح على الآخر، قبل أن يصيبه الوهن؛ بسبب سوء إدارة الرئيس السابق “نيكولا ساركوزي”.

أما المظهر الثالث، لهذه الانتخابات فيتعلق بحرب غزة والقضية الفلسطينية، فيمكن القول إنها كانت حاضرة بقوة في حملات المرشحين والقوى السياسية دون أن يعني ذلك أنها ستمثل العامل الأساسي وراء اختيارات الناخبين.

ويمكن القول إجمالا، أن كل الأحزاب السياسية في فرنسا من أقصى اليمين مرورا بيمين الوسط، وانتهاء باليسار الاشتراكي، أدانوا عملية 7 أكتوبر، وصنفوا حركة حماس كحركة إرهابية، باستثناء حزب فرنسا الأبية (أقصى اليسار)، الذي وإن أدان العملية على اعتبار، أن جانب من ضحاياها من المدنيين لكنه تحدث عن أسبابها، ودوافعها أكثر من حديثة عن العملية نفسها، وكيف أن الاحتلال والقهر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، هو السبب وراء القيام بهذه النوعية من العمليات.

وقد أثار هذا التصنيف انقساماً في أوساط اليسار الفرنسي، لأن حزب فرنسا الأبية، يرفض اعتبار حماس “منظمة إرهابية”، كما تصنفها إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وباقي القوى السياسية الفرنسية من يسار الوسط واليمين بكل تنوعاته.

وقد نصت معظم برامج الأحزاب السياسية على ضرورة وقف الحرب في غزة، وطالبت بقيام دولة فلسطينية مستقلة، وكان هذا التوجه أوضح في برنامج الجبهة الشعبية اليسارية، التي طالبت بـ “الاعتراف فورا بدولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل على أساس قرارات الأمم المتحدة”، وأضافت نقطة أخرى، تميزت بها وهي المطالبة بضرورة “فرض حظر على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل”.

والمؤكد أن الموقف الداعم للقضية الفلسطينية الذي تبناه حزب فرنسا الأبية قد يتراجع، ولو قليلا بعد أن حل الحزب في المرتبة الثانية بين قوي اليسار بعد الحزب الاشتراكي، الذي يدعم بشكل غير مطلق إسرائيل، وأن مواقفه من القضية الفلسطينية يستقيها أساسا من خط حزب العمل في تل أبيب.

ورغم الانتقادات الكثيرة التي توجه لخطاب رئيس حزب فرنسا الأبية (جان لوك ملينشون)  وتعتبر كثير من آرائه متطرفة أو غير واقعية إلا إنه يمكن القول إنه الحزب الوحيد الذي يغرد خارج سرب القراءة الغربية التقليدية للقضية الفلسطينية.

الظواهر التي قدمتها الانتخابات الرئاسية الفرنسية كثيرة، وجديدة وبعضها سيؤثر ليس فقط على شكل الحكم في فرنسا، إنما أيضا على أوروبا والعالم الخارجي، وفي القلب منه العالمين العربي والإسلامي، وأيضا على قضية الهجرة والمهاجرين الأجانب، بل ومشكلات الفرنسيين من أصول عربية.