كتب- سمير علي 

في عام 2008، خرج نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب إفريقي الأشهر من عزلته مخاطبا أبناء شعبه الذين ناضل من أجلهم سنوات ضد التمييز والتفرقة العنصرية، وذلك بعد تزايد خطاب الكراهية في جنوب إفريقيا ضد المهاجرين من زيمبابوي ونيجيريا، والعديد من الدول الإفريقية، وصولاً إلى إحراق المساكن التي كان يقيمون فيها.

«هل نحن أمة بلا ذاكرة؟».. كانت هذه كلمات مانديلا في خطابه لشعبه، داعيًا إياهم إلى تذكر العون الذي قدمته هذه الشعوب لجنوب إفريقيا في نضالها، ورغم مرور سنوات طويلة على كلمات الزعيم الجنوب إفريقي، إلا أن ما يحدث اليوم من تزايد خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، كان جديرًا باستدعاء هذا التساؤل، فدائمًا ما كانت مصر ملجأً للعديد من الديانات والجنسيات والعرقيات المختلفة، ولم يكن شعبها إلا مضيافًا على الدوام.

الهروب من جحيم الحرب

بعد اشتعال الحرب السودانية الداخلية بين النظام السوداني، وقوات الدعم السريع، نزح العديد من السودانيين إلى مصر؛ هربًا من جحيم الحرب التي تسببت في خراب، ودمار على الشعب السوداني، واستقبلت مصر ضيوفها كغيرهم من الجنسيات المختلفة، منهم من دخل بطرق شرعية، ومنهم من لجأ إلى طرق غير قانونية للهرب من الموت الذي يلاحقه.

وقبل 12 عامًا، نزح إلى مصر آلاف السوريين بعد قيام الثورة السورية، واندمجوا داخل المجتمع المصري، وشاركوا المصريين حياتهم، وأصبحت لهم تجارتهم الخاصة، ولم تقم مصر كغيرها من الدول بإقامة ملاجئ للهاربين من الحروب، ولكنها احتضنتهم وعاملتهم كأبنائها دون تفرقة.. الأمر نفسه طبقته الدولة المصرية مع السودانيين،

ومع تزايد أعداد النازحين السودانيين من الجنوب، بدأ الخطاب التحريضي وخطاب الكراهية، ينتشران على وسائل التواصل الاجتماعي ما بين مؤيد ومعارض لتواجد السودانيين وانتشارهم في أرجاء مصر، وبدأ إلقاء اللوم عليهم في ازدياد سوء الأوضاع الاقتصادية، في المقابل نشرت حسابات لمواطنين سودانيين ردود أفعال غاضبة، واشتبك الطرفان في معارك كلامية على منصة تويتر “إكس حاليًا” وموقع فيس بوك.

تلك الاشتباكات التي شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي، دفعت المحامي الحقوقي طارق العوضي، بالتقدم ببلاغ للنائب العام حمل رقم 711895 عرائض المكتب الفني؛ مطالبًا بالتدخل من أجل حماية الأمن القومي المصري؛ نظرًا لحساسية القضية.

أعداد المهاجرين في مصر

في إبريل الماضي، أعلن المهندس مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، في بيان رسمي، أن التقديرات تشير إلى وجود أكثر من 9 ملايين مقيم ولاجئ في مصر من نحو 133 دولة، بنسبة 50.4% ذكور، و49.6% إناث، ويمثلون 8.7% من سكان مصر.

ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، فإن السودانيين يشكلون العدد الأكبر في مصر بنحو 4 ملايين، يليهم السوريون 1.5 مليون، واليمنيون بنحو مليون، والليبيون مليون، وتمثل الجنسيات الأربع 80 % من المقيمين بالبلاد، وتعرف المنظمة المقيم، بأنه من اختار الانتقال طواعية إلى البلد الذي اختاره، أما اللاجئ هو الذي اضطرته ظروف الحرب إلى الفرار من وطنه.

بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في آخر تحديث دوري للاستجابة لحالات الطوارئ في السودان، فإن عدد الوافدين من السودان لمصر منذ بداية الأحداث الأخيرة، ما بين لاجئ وطالب لجوء، وصل إلى 500 ألف شخص، حتى منتصف مايو الماضي.

خطاب الكراهية ومدونة السلوك

الدستور المصري نص في المادة 91 على حق الدولة في منح اللجوء السياسي لكل أجنبي، اضطهد بسبب الدفاع عن مصالح الشعوب، وفي المادة 93 على الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كما رفضت المواثيق الدولية الحض على الكراهية في صورة حرية التعبير، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.

المادة 20 العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص على “تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية، أو العنصرية أو الدينية، تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف”، أثارت جدلًا بين عدة دول؛ بسبب ما اعتبره البعض تقييدًا للحرية التي نصت عليها بقية المواثيق الخاصة بحرية التعبير، إلى أن تم الاتفاق على تعريف للمصطلحات التي نصت عليها هذه المواثيق.

المواثيق الدولية لم تقتصر على التعريفات، ولكن الاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع شركات التكنولوجيا، ناقش كيفية حماية الفضاء الرقمي من خطابات الكراهية، والتحريض وتم إصدار ما يسمى “مدونة سلوك الاتحاد الأوروبي لمكافحة خطابات الكراهية على الإنترنت”، وكانت هذه المدونة سببًا في جدل كبير بين أصحاب الشركات الكبرى مثل، جوجل وفيس بوك وتويتر “إكس حاليًا” ومايكروسوفت، وفي النهاية طبقت هذه الشركات مدونة السلوك داخل المواقع الخاصة بها.

وعلى الرغم من تطبيق مواقع السوشيال ميديا لمدونة السلوك، إلا أن كل موقع أصدر قواعد، خاصة لمكافحة خطاب الكراهية، ففي الوقت الذي حدد فيس بوك خطاب الكراهية، على أنه أي خطاب عنيف أو غير إنساني، أو يدعو للدونية والازدراء، سمح موقع إكس ببعض التعبير عن الكراهة في تدويناته، كما أن هذه القواعد تعمل وفقًا للخوارزميات، وهو أمر معقد، وقد يؤدي إلى العديد من الأخطاء.

حالات فردية

الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي الجمهورية، ورئيس مركز سلام لدراسات التطرف قال لـ “مصر 360″، إنه ينبغي التأكيد على أن ما نشهده حاليًا، هو حالات فردية تنتشر أغلبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تُفسر خطأً على أنها ظاهرة عامة،

وأوضح أن هذه الحالات الفردية لا تعبر عن المشاعر الحقيقية للأغلبية الساحقة من الشعبين المصري والسوداني اللذين يجمعهما تاريخ طويل من التعاون والمودة واحترام حق الجوار والتعايش السلمي.

وأكد رئيس مركز سلام لدراسات التطرف، أحد أهم المراكز في مصر المعنية بتحليل الخطاب والمضمون خاصة المتعلقة بالتطرف والإرهاب، أنه يجب أن ندرك أن ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي قد يُضخم أو يُساء فهمه، وليس بالضرورة يعكس الواقع على الأرض، ويجب علينا أن نتذكر دائمًا أن العلاقات بين المصريين والسودانيين أقوى من أن تتأثر ببعض الحالات الفردية.

وتابع: “بوجه عام انتشار خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي في أي مكان في العالم يمكن أن يُعزى إلى عدة عوامل، أبرزها التوترات السياسية والاجتماعية التي قد تؤدي إلى تبادل الاتهامات والإساءات بين الأفراد، ومع ذلك، يجب التنويه إلى أن الشعبين المصري والسوداني هما شعبان شقيقان بينهما أواصر المحبة والود، والعلاقات التاريخية والثقافية بين البلدين تجعلهما متقاربين بشكل كبير.

خطاب عشوائي أم منظم؟

الدكتور إبراهيم نجم، قال كذلك إنه من الصعب الجزم بوجود إدارة منظمة لنشر خطاب الكراهية بين المصريين والسودانيين، ففي معظم الأحيان، يبدو أن هذه الخطابات نشأت عن حالات فردية وليست نتيجة لمخططات منظمة،

واستطرد: “يجب الحذر في التعامل مع مثل هذه الاتهامات”.

ولفت إلى أن الجهات الرسمية المصرية لديهاــ غالبًاــ الوسائل الكافية لمتابعة، ورصد أي إساءات، واتخاذ الإجراءات المناسبة حيالها لضمان عدم انتشارها، أو تأثيرها على العلاقات بين البلدين.

من جانبه، اختلف الدكتور أيمن أبو العلا، وكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، مع الدكتور نجم، في أن هذه الخطابات غير منظمة، معتبرا أنها مخططات خبيثة تستغل الظروف التي تمر بها مصر، وتحاول خلق حالة من البلبلة بين البلدين الشقيقين،

وأشار إلى أن ما يحدث هو محاولة التفرقة بين المصريين والسودانيين، استغلالا لوجود عدد كبير من السودانيين في مصر لإحداث اضطراب داخلي.

وأضاف أن القوانين المصرية تعاقب على خطاب الكراهية، معتبرًا أن ما يحدث نوع من أنواع التنمر الذي يجب وقفه، موضحًا أن مصر قُدِر لها، أن تكون سندًا للدول المحيطة، والتي تعاني من صراعات واضطرابات، أدت بمواطنيها إلى اللجوء لمصر والاستغاثة بها، وهو ما تقوم به مصر من فجر التاريخ، وليس حديثًا، كما أن الشعب المصري يحترم كل الشعوب، ويستضيفهم ويقدر ما يمرون به.

نموذج متكامل لخطاب الكراهية

في دراسة صدرت نهاية عام 2023، للباحثة نجوى إبراهيم سيد، تحت عنوان “خطاب الكراهية والتحريض ضد اللاجئين في مصر على موقع تويتر – دراسة تحليلية”، قامت الباحثة برصد وتحليل مضمون 1266 تغريدة ضمن وسوم (هاشتاجات) متعددة تتضمن خطابَا يحض على الكراهية خلال الفترة من 15 إبريل إلى 15 مايو 2023، وهي الفترة الأكثر نزوحًا إلى مصر بعد احتدام الصراع في السودان، وهي نفسها الوسوم التي ظهرت مجددًا في الأيام الأخيرة.

تضمنت الوسوم التي تناولتها الدراسة “اطردوا اللاجئين من مصر– اقفلوا الحدود– كفاية لاجئين– ضد توطين وتجنيس اللاجئين” وغيرها.

اتسمت التغريدات بمظاهر وأنماط في مقدمتها التحريض على الكراهية وتقييد الحقوق بنسبة 33.5 %، إلقاء اللوم على اللاجئين في الأزمات الاقتصادية بنسبة 25.2 %، التحقير والازدراء بنسبة 21%، السخرية 11.2%، إظهار التفوق 5.7%، ثم التحريض المباشر على العنف بنسبة 3.4%.

وتوصلت الدراسة إلى أن 77.6 % من التغريدات كانت بأسماء حقيقية، و22.4 % بأسماء مستعارة، موضحة أن أغلب الحسابات التي تحمل أسماء حقيقية، أنتجت هذا الخطاب تصورًا، أنها تدافع عن قضية وطنية، خاصة أنها تخاطب قيادات ومؤسسات الدولة،

بعض الحسابات تم إعادة تغريداتها مئات المرات، وتصدر اللاجئون السودانيون الاستهداف في الخطاب بنسبة 46.7 %، ثم باقي الجنسيات عدا السورية بنسبة 39.4 %، ثم السوريين بنسبة 13.9 %، وأرجعت الباحثة السبب إلى شدة احتدام الصراع في السودان ونزوح آلاف اللاجئين إلى مصر.

وحول الموضوعات التي تضمنتها التغريدات، كان أولها مخاطر تتعلق بتوطين وتجنيس اللاجئين، ثم استنزاف الموارد الاقتصادية، تلتهما مخاطر تتعلق بالأمن القومي المصري، مخاطر تتعلق بالهوية المصرية، والتهديد الديموجرافي، ثم التهديد الأيديولوجي والثقافي، ومخاطر تتعلق بانتشار الأوبئة،

وأوضحت الدراسة، أن أهداف خطاب الكراهية تمثلت في تشكيل اتجاهات ومشاعر عدائية ضد اللاجئين في المقام الأول بنسبة 37.2 %، وكانت الدعوة للقيام بأفعال عدائية ضد اللاجئين أقل نسبة 4.2 %.

الدراسة توصلت أيضًا إلى أن هناك نموذجا متكاملا لخطاب الكراهية على مواقع التواصل الأمر الذي حولها إلى مواقع للتنافر، وجاء الخطاب حادًا لاذعًا على اللاجئين والمسئولين معًا.

وأصدرت الباحثة عدة توصيات لمواجهة خطاب الكراهية، منها تعزيز حملات ومبادرات نشر القيم الإنسانية وتقبل الآخر، إنشاء وحدة متخصصة في الجرائم الإلكترونية، تعمل على مواجهة خطاب الكراهية، الدمج بين العنصر البشري والذكاء الاصطناعي في رصد الخطاب، إنشاء وحدات بحثية تابعة للدولة لرصد هذه الخطابات مع ضرورة دراسة الظواهر المسببة لها وتتبع مساراتها.

الآثار المترتبة على خطاب الكراهية

في دراسة ميدانية، أجريت عام 2019، بعنوان “محددات وعي الشباب المصري بمفهوم خطاب الكراهية واستراتيجياته بوسائل الإعلام الرقمية”، توصلت الدكتورة هبة محمد شفيق، المدرس بقسم علوم الاتصال والإعلام جامعة عين شمس، إلى أن الآثار الناجمة عن انتشار خطاب الكراهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي طبقًا لعينة الدراسة، التي استهدفت الفئة العمرية من 18 إلى 21 عاما، تتضمن إثارة الفتن بين مكونات المجتمع، وتهديد وحدة النسيج الاجتماعي، والمساعدة في انتشار التطرف بين الشباب، وإبعاد المستثمرين والأجانب، والمساهمة في نشر العنف المجتمعي، زيادة الجرائم، وتراجع التزام اناس بالدين.

لعنة الظروف

الدكتور إبراهيم نجم، يؤكد أن الظروف الاجتماعية والسياسية في أي مكان في العالم تلعب دورًا كبيرًا في انتشار خطاب الكراهية، وقد تؤدي التوترات السياسية في مناطق معينة من العالم إلى تبادل الاتهامات والإساءات، خصوصًا عندما يتم تناقل معلومات مغلوطة، أو يتم التسرع في الحكم على الأمور، دون التأكد من صحتها.

وشدد نجم، على أن تقوم جهات متخصصة في البلدين بمراقبة هذه الحالات والتعامل معها بحزم، عندما تتحول من حالات فريدة إلى ظاهرة عامة،

الدولة تقف بالمرصاد

وعن دور الدولة في مواجهة المخاطر المحيطة، أكد مستشار مفتي الجمهورية، أن الدولة المصرية بقيادتها الحالية متيقظة تمامًا، لمخاطر انتشار خطاب الكراهية وتراقب الوضع عن كثب، لافتًا إلى أن الحكومة المصرية لديها العديد من الوسائل، والطرق التي يمكن أن تتبعها لتحقيق الاستقرار ودوام استمراره، بما في ذلك تشديد الرقابة على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بخطابات الكراهية، وتعزيز الحوار بين مختلف الفئات، وتنفيذ برامج توعية تهدف إلى تعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي، وأن الدولة لن تسمح بانتشار أي خطاب كراهية، وستتخذ الإجراءات اللازمة لمواجهته وضمان استقرار المجتمع.

وهو نفس الأمر الذي أكد عليه الدكتور أيمن أبو العلا، حيث أوضح أن القانون هو الحاكم، وأي خطأ أو تهديد للأمن القومي المصري تواجهه الدولة المصرية بحزم وجدية، خاصة وسط المخاطر المحيطة من جميع الجهات.