الانتخابات في إيران منذ الثورة الإسلامية 1979م، هي ذاتها الانتخابات في إيران القاجارية، منذ الثورة الدستورية 1906م، ثم هي ذاتها في إيران البهلوية منذ 1925م، كل ما هنالك أن المرشد الأعلى أصبح هو الشاه الجديد، مثلما كان الشاه القديم هو المرشد الأعلى الجديد، الشاه والمرشد الأعلى استمرار للتحديث الصفوي الذي دشنه الشاه عباس الصفوي الأول 1571 – 1627م، كان الشاه عباس ولقب عباس الكبير أو الأكبر، أول طغاة الشرق، إدراكاً لتفوق الغرب، سبق الشرق كله، في إدراك أن موازين القوة في المستقبل سوف تكون مفاتيحها في يد الغرب، فولى وجهه شطر الغرب، يستعين بهم في تحديث الجيش، ونظم الإدارة، كما يتحالف معهم ضد أعدائه العثمانيين زعماء الإسلام السني.
منذ ذلك الوقت المبكر، لم يمانع الغرب في دعم مثل هذا التحديث الجزئي الذي يقتصر على تحديث آلة الحرب مع بقاء التخلف الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما لم يمانع الغرب، في أن يتواكب التحديث مع الاحتفاظ بنمط الاستبداد الشرقي وتعزيزه، كما وضع الغرب القاعدة الذهبية المعمول بها إلى اليوم والغد وهي: التعاون مع الأقليات لترويض الأغلبيات وللإبقاء على الشرق الأوسط في حال تشرزم وصراع وتفتيت وانقسام، تعاون الغرب وما زال مع الشيعة ضد الأغلبية من السنة، وفي داخل السنة تفضيل الأقلية التركية على العرب، وفي داخل العرب تفضيل القبائل على الدول، وفي داخل الدول تفضيل الدول الصغيرة على الكبيرة وملاعبة الكبار باستخدام الصغار، وحتى هذه اللحظة يحظى الشيعة وفي القلب إيران- رغم ثوريتها- بتعامل خاص من الغرب يتميز عن معاملتهم للعرب السنة، رغم انسحاق أكثر العرب تحت الهيمنة الأمريكان.
إيران مثلها مثل تركيا، تظل أدوات مهمة ليس فقط في ضمان السيطرة على الشرق الأوسط، لكن كذلك في مواجهة الخطر الروسي. الروس جاؤوا بعد الإيرانيين مباشرة في أمرين: أولهما إدراك تفوق الغرب، وما يعنيه من لزوم تحديث الجيش الروسي والأسطول الروسي والإدارة الروسية على النمط الغربي، وثانيهما إدراك أن العثمانيين خطر كبير على المشروعين الإيراني والروسي، وكان ذلك في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مما يثلج قلوب الغرب، كان الغرب يسعده ظهور قوى شرقية تأخذ من طاقة العثمانيين، وتشغلهم وتخفف ضغطهم المرعب على أوروبا. إيران الصفوية سبقت روسيا، ودخلت في صراع عنيف مع العثمانيين من مطلع القرن السادس عشر، أما الروس فقد كانوا يتحاشون المواجهة مع العثمانيين، رغم تحريض القناصل الأوروبيين للقياصرة، فلما جاء بطرس الأكبر 1672 – 1725م، وهو النموذج الروسي من الشاه عباس الصفوي الأكبر- بدأت تتغير المعادلات، وبدأت بذور النظام الدولي القائم حتى الآن، كما بدأت تتبلور ملامح الشرق الأوسط الحديث.
على خطى عباس الأكبر تحالف بطرس الأكبر مع الغرب؛ لتحديث الجيش والأسطول والإدارة مع بعض الشكليات، مثل العادات الأوروبية في المظهر والملبس والمأكل إلى آخره، بطرس الأكبر كان أول قيصر روسي يزور الغرب 1797 م ، وكان أول قيصر روسي يوقع الهزيمة المنكرة بالعثمانيين، إلى هنا كان- مثل عباس الأكبر- حبيب وحليف الغرب، لكنه كان لديه مشروع لخلق إمبراطورية روسية على حساب العثمانيين، كما على حساب أوروبا شرقها ووسطها، ولم يكد القرن الثامن عشر ينتصف، حتى صارت روسيا دولة أوروبية عظمى، ذات خطر ليس على العثمانيين فقط، لكن على مجمل أوروبا ، ومنذ ذلك التاريخ وروسيا – من وجهة نظر الغرب- خطر استراتيجي سواء، وهي قيصرية أو سوفيتية شيوعية أو بوتينية مشاغبة، هذا الخطر الروسي يعطي كلا من إيران وتركيا قيمة مضاعفة في نظر المصالح الغربية، لهذا لا يبدي الغرب- مثلاً- أية غضاضة على إسلامية تركيا الأردوغانية ولا شيعية ولا ثورية إيران الإسلامية، الرؤية الغربية الواسعة للعالم، تسمح بمكان لهذه ومكان لتلك في السياسة الغربية.
بعد هزيمة العثمانيين من الروس 1699م، ومن قبلها هزيمتهم على أبواب فيينا 1683م، أدركوا- مثلما أدرك الإيرانيون والروس- تفوق الغرب، ولزم الأخذ عنه لإصلاح الجيوش والتسليح والإدارة، حدث ذلك في عهد السلطان أحمد الثالث 1703 – 1730 م ، وعلاوة على تحديث الجيوش، بدأت استعارة أنماط الحياة الغربية في الملبس والمأكل والمشرب وأثاث البيوت ونمط العمارة والموسيقى وغيرها، تماماً مثلما حدث في روسيا بطرس الأكبر، وكانت النتيجة أن روسيا وتركيا منذ مطالع القرن الثامن عشر، بدأت تتكون فيهما طبقات اجتماعية متأوربة متغربة في التعليم والثقافة وأنماط الحياة وأذواقها، مع الاحتفاظ بأمرين: استبداد الحكام، بل زادوا طغيانا بأدوات السيطرة المستحدثة، ثم تخلف العوام، بل زادوا تخلفاً لاضطرارهم للتمسك بالقديم، والدفاع عنه كشكل من أشكال الدفاع عن الذات.
وقد تأخرت مصر عن إيران وروسيا وتركيا، فلم تبدأ إلا منذ مطالع القرن التاسع عشر، وعلى خطاهم أدخلت تحديثات شكلية: تحديث الجيوش والإدارة، مع بقاء استبداد الحكام، وتخلف العوام، هذا التحديث جلب التسلل، ثم التدخل ثم الهيمنة، ثم الاحتلال الأجنبي ثلاثة أرباع قرن، وصل التحديث الشكلي ذروته في ثورة 1919م، حيث ديمقراطية الباشوات تحت الاحتلال، تستطيع القول إن التحديث الارستقراطي الشكلي استغرق مائة عام من تأسيس جيش الباشا، حتى إصدار دستور 1923م، الذي تمت استعارته من أكثر دساتير أوروبا تقدما في مجتمع مليء بالظلم الاجتماعي، حيث قليل من الباشوات وكثير من الفقراء. وكان الرد على مائة عام من التحديث الشكلي، أن ظهر معلم شاب متخرج من التعليم الحديث، وليس من الأزهر، وظهر في الإسماعيلية التي كانت جوهرة، وخلاصة مائة عام من التحديث الأوروبي، هذا الشاب جر مصر وراءه قريباً من مائة عام، جرها بأزهرها وجامعاتها ومؤسساتها وطبقاتها، حتى استطاع خلفاؤه في أول العقد الثاني من القرن الحالي، أن يكون منهم رؤساء الجمهورية والوزارة والشعب والشورى، وغيرها من مؤسسات الدولة. تحديث الباشا نسفه تحديث معاكس- من داخل مؤسسات الباشا- على يد معلم ابتدائي.
السؤال: على هامش الانتخابات الإيرانية، لماذا لا توجد ديمقراطية حقيقية في الأمم الشرقية، مثل إيران وروسيا وتركيا ومصر مع فارق تقدم نسبي لتركيا؟
هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.