نبدأ بتعريفين موجزين للدين ثم للديمقراطية.

الدين هو الدعوة التي تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان بثلاثة أشياء: توحيد الخالق والإيمان به، ثم العمل الصالح وفق ما أمر به الخالق ونهى عنه، ثم التحلي بالأخلاق والفضائل الحميدة، لهذا فالدين باختصار شديد: عقائد للإيمان، شرائع للعمل، أخلاق للتعامل بين البشر، كل البشر، في كل المجالات.

الديمقراطية هي حق شعب معين في زمان محدد ومكان معلوم في اختيار حكامه- بكامل إرادته الحرة- ثم الحق في مراجعتهم و مساءلتهم ومحاسبتهم ونقدهم ومحاكمتهم وفق الدستور والقانون إذا اقترفوا ما يمثل إخلالاً جسيماً بواجبات مناصبهم ثم عزلهم- في نهاية المطاف- عندما، وكلما، اقتضت المصلحة العامة عزلهم.

الدين قديم موغل في القدم  تزامن مع وجود آدم وحواء على الأرض، أما الديمقراطية- بالمعنى المذكور- فهي اختراع حديث بدأ يظهر للوجود في اللحظات الأخيرة من تاريخ البشر، تزامن مع الثورتين الأمريكية ثم الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، جاءت ثمرةً لنضال الشعوب الغربية ضد هيمنة الملوك والكنيسة والنبلاء، ومازالت- حتى يومنا هذا- محصورة في نطاق صغير من العالم، ومازالت هي ذاتها متعثرة حتى في مهدها الغربي الأوربي، ومازالت أكثر شعوب الأرض تسمع بها ولم تجربها. مازال الحكم الديمقراطي أقلية على خريطة العالم السياسية حيث الديكتاتوريات مازالت تمثل الأغلبية.

الديمقراطية- حتى الآن- منظومة لم تكتمل وبها الكثير من جوانب النقص، لكنها أنجزت أمرين عظيمين في تطور البشرية:

1 –  الأول أنها حرمت الحكام من الطغيان والتكبر والتجبر باعتبارهم سادة أو آلهة، منعت ذلك في المجتمعات الديمقراطية إلى الأبد، الحاكم واحد من الناس، يخضع للقانون مثلما يخضع له كل الناس، هذا أعظم إنجاز في تاريخ العلاقات بين الحكام والمحكومين كما هو أعظم إنجاز سياسي في تاريخ الجنس البشري  .

2 –  والثاني أن الديمقراطية  فاقت وتفوقت على كل من سبقها من نظم حكم  في تحرير البشر من الخنوع و الخضوع والانحناء والاستعباد والاسترقاق، ذلك أنها أغلقت- بحسم وحزم- مزاعم المُلك ودعاوى أن الجبابرة والطغاة قد ولاهم الله على شعوبهم وأعطاهم الحق في حكمهم والتسلط عليهم، الديمقراطية نزعت- بقوة- الغطاء الديني الذي يتدثر به الطغيان في كل الأديان.

لا توجد ديمقراطية تنزل من السماء، أو يتم استيرادها بنقل الدساتير والقوانين الديمقراطية من الغرب الديمقراطي، لكن توجد شعوب تناضل الطغاة حتى تفرض عليهم إرادتها وتكون لها السيادة عليهم تختارهم وتعزلهم حسب مشيئتها أو شعوب تخنع ثم تخضع ثم ترضخ ثم تنحني فيركبها الطغاة وأعوان الطغاة، كم من طغاة كانوا أتقياء مخلصين للدين سواء في تاريخ المسيحية الأوروبية أو إسلام الشرق الأوسط.

………………………………………………….

لا يوجد دين ديمقراطي، يدعو للديمقراطية، ويعد الديمقراطيين بالثواب الجميل ويتوعد الديكتاتوريين بالعذاب المهين ، كذلك لا يوجد دين ديكتاتوري يزين للناس السمع والطاعة والاستسلام والانسحاق تحت أقدام الطغاة بزعم أنهم أولياء الأمر، لكن الدين يدعو الإنسان، كل الإنسان، الحاكم والمحكوم والقوي والضعيف والغني والفقير، يدعوهم للتحلي بالفضائل والخيرات وصالح الأعمال وينهاهم عن الرذائل والشرور وطالح الأعمال، يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، كما ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، هذه هي مظلة الدين: هداية للخير وتحذير من الشر .

عظمة الخليفة الأول أبو بكر الصديق تجلت في حكمته العميقة التي وقفت به عند هذا المعنى، أدرك أن صنعة الحكم شأن بشري- ليس كالصلاة منصوص عليه بأدق التفاصيل- ومن ثم فهو متروك لاجتهاد البشر، وقد اجتهد أبو بكر رضي الله عنه في ثلاث قضايا كبرى انبنى عليها مفهوم الحكم الرشيد وتأسس عليها معنى الخلافة الراشدة:

1 – المسألة الأولى التي اجتهد فيها فأصاب هي إعلاء مبدأ الحرية السياسية، أدرك- بعمق البصيرة- أن الحكم العاقل الرشيد إنما هو توافق وشراكة بين مكونات الجماعة السياسية،  ثم اختيار وبيعة بالتراضي والإقناع، وكل ذلك بمطلق الحرية والإرادة الفردية دون قسر ولا إكراه ولا عنف، جعل السيادة للمهاجرين والوزارة والمشورة للأنصار والكلمة النهائية في حرية الاختيار لضمير كل فرد.

2 – المسألة الثانية أن الدولة آلة لا تعمل في فراغ، لكن تعمل في صراع بشري غريزي للقوة والثروة، وأن دورها هو ضبط هذا الصراع بما يضمن قاعدتين عظيمتين: المساواة ثم العدالة، القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، نظرية كاملة في الحكم الرشيد تجلى بها عقله البصير دون اتكاء على نص مقدس أو فتوى دينية، كلام سياسي في صلب السياسة بلا كهنوت.

3 – المسألة الثالثة أن الدولة هي النظام والقانون، وكل خروج على النظام والقانون هو ضرب لفكرة الدولة من أساسها وتقويض لبنيان المجتمع من جذوره، لذا اعتبر امتناع بعض العرب عن أداء الزكاة للدولة نوعاً من العصيان المدني من شأنه القضاء على الدولة الوليدة في مهدها، وهنا حقق وأكد معنى الدولة كسلطة سيادية عليا تحتكر الحق الشرعي في استخدام القوة لفرض النظام والقانون.

الحكمة السياسية لأبي بكر كانت هي جوهر الحكم الرشيد في عهود الخلفاء الأربعة، ثم انقلبت القواعد الثلاث إلى النقيض منها، صار الحكم بالتوارث والاحتكار وليس بالتوافق والتراضي والبيعة بالقهر والإكراه والقسر، واختلت قاعدة المساواة لصالح تمييز المقربين على من سواهم كما اختلت قاعدة العدل ليكون الظلم شرعياً ما دام صادرا عن الحاكم المتمكن المتغلب، ولم يعد احتكار الدولة للحق الشرعي في استخدام القوة الغرض منه- كما أراد أبو بكر والخلفاء الراشدون- فرض النظام وبسط سلطة القانون وإنما صار الغرض منه حماية الحكم القائم وقمع المعارضين والمنافسين والخصوم.

…………………………………………………………

سادت الديكتاتوريات تاريخ المسلمين، لأنهم افتقدوا حكمة الرشد السياسي، افتقدوا نظرية أن الحكم شأن دنيوي محض يتعامل مع معادلات بشرية غريزية متغيرة ومتقلبة والأهواء فيها ترتدي أثواب الحق، اجتهد الحكام من بعد الراشدين في مراكمة تراث فقهي وتفسيري تحكمي تعسفي سلطوي  يشرعن ويقر الحكم القائم ما دام هو قائم ، ومع مرور الزمن تأسست تقاليد شرقية طغيانية تحت اسم الإسلام تتناقض تماماً مع الروح العملية الليبرالية الديمقراطية التي امتازت بها سياسة أبي بكر الصديق ومن بعده الخلفاء الراشدين.

السؤال: لماذا كل هذه التمهيدات والمقدمات الطويلة؟

الجواب: وضع الإطار النظري لمناقشة ما أدلى به الناطق باسم الخارجية الإيرانية صبيحة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران، حيث قال إن الانتخابات تعني مأسسة الديمقراطية الدينية.

والحقيقة هي عكس ذلك تماماً، الانتخابات في إيران- منذ الثورة الإسلامية 1979- ليست أكثر من أدوات في تعميق الديكتاتورية الدينية. فالحكم الإسلامي في إيران لم يكن أكثر من جزء من حالة دينية غير ديمقراطية عمت أرجاء الشرق الأوسط في عقد السبعينيات من القرن العشرين، ديكتاتورية دينية جاءت على النقيض من الروح الليبرالية الديمقراطية المنفتحة على روح العصر والمعبرة عن أشواق الأسوياء في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة كما عبرت عنها الثورة الدستورية في إيران 1906 ثم الثورة المصرية من أجل الاستقلال والدستور 1919م ، وقد تضافرت العوامل لتفريغ الشحنة الوطنية الليبرالية في ظل ديكتاتوريات عاتية في مواجهة الشعبين الإيراني والمصري ثم خانعة وخاضعة للأمريكان والصهيونية، فسلم رضا بهلوي مصير إيران للتطرف الديني، ومثله فعل صديقه المقرب أنور السادات في مصر.

كيف تأسست الديكتاتورية الدينية في إيران ما بعد الثورة 1979؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.