تكررت التصرفات الصادمة التي قام بها العديد من المسئولين وخاصة المحافظين تجاه الطواقم الطبية في كثير من المستشفيات الحكومية، وقد يكون تصرف محافظ سوهاج تجاه طبيبة المراغة نموذجا لهذه التصرفات التي تجاوزت هذه المرة مساحة الاستعلاء والإساءة المتعمدة ضد تصرفات فيها شبهة خطأ، لتصل إلى محاسبة طبيبة لأنها التزمت باللوائح والقواعد التي وضعتها الدولة والمحافظة في دخول المرضي وفق نظام التذكرة، وقالت للمريض “روح هات تذكرة وادخل اكشف”، وهو ما لم يعجب المحافظ  الذي عنفها بشدة واعتبرها “بدون إحساس” لأنها التزمت بلوائح محافظته.

والحقيقة أن هناك مسئولين باتوا يبحثون عن اللقطة والشو أكثر من البحث عن إصلاح حقيقي أو تقديم عمل جاد يخدم المواطنين بعيدا عن كاميرات التلفزيون والدعاية الرسمية.

وقد بدا الأمر لافتا تكرار اختيار كثير من المحافظين للطواقم الطبية والمستشفيات الحكومية للزعيق والإحالة للتحقيق وكأن باقي الهيئات والمؤسسات الحكومية تعمل مثل الساعة وليس بها أي مشاكل، وفقط المستشفيات الحكومية هي التي تعاني من المشاكل وسوء الإدارة، فلم نشاهد محافظا يكرر جولاته بنفس الهمة في قسم شرطة ويعلن هناك محاسبة مقصر أو مخطئ، أو يذهب للشهر العقاري أو أي إدارات أخرى داخل محافظته ويتعامل مع المخطئين مثلما يتعامل مع من يشتبه أنهم مخطئون في المستشفيات الحكومية.

صحيح أن المنظوم الصحية في مصر بها أوجه قصور كثيرة وأن المحاسبة واجبة تجاه أي مقصر مهما كانت مهنته وأن الأطباء لا يجب أن يكون على “رأسهم ريشة” وفوق المحاسبة إنما يجب أن يحاسبوا مثل الجميع، أي وفق قواعد وليس أهواء أو انفعالات شكلية.

مشكلة “زعيق” المحافظ وإهانته للطبيبة إنه يتصور إنه سيغطي على مسئولية الدولة في تردي الخدمة الطبية نتيجة قلة ما تنفقه عليها، وهو أمر مستحيل تصديقه، كما أن خطورة هذا الموقف إنه يحاول الانتقال من صورة المحافظ الصارم الذي يعمل من أجل “الضبط والربط” إلى صورة “المحافظ الإنسان” الذي يخاف على المرضى، ولكنه ينسى أو يتناسى إنه يهدم قواعد ولوائح المنظومة التي وضعتها حكومته ومحافظته وجعلت الكشف مقابل تذكرة مدفوعة، وإذا كان معترضا عليها بحق فعليه أن يتشجع ويطالب الدولة بإلغاء تذاكر الكشف التي وضعتها أو يدفع من جيبة ثمنها للمرضي لا أن يهين طبيبة بسبب احترامها للقواعد التي وضعتها الدولة وأراد هو أن يخالفها من أجل اللقطة.

علينا ألا ننسي إنه بسبب ضعف الإمكانات المقدمة للمنظومة الصحية فقد مئات الأطباء حياتهم أثناء جائحة كورونا حتى أن نسبتهم بلغت 3% من أعداد المتوفين بسبب الجائحة بينما بلغت هذه النسبة في بلد مثل إيطاليا حوالي 0.4%، ورغم أنها تُعد واحدة من أسوأ دول العالم في الإصابة بالفيروس.

اعتبار بعض المسئولين أن الطواقم الطبية هم “الحيطة المايلة” التي يمكن التجاوز في حقها دون أي حسابات لأنهم فئة “غير محصنة” أمر كانت نتيجته وخيمة على المنظومة الصحية وأوضاع المستشفيات الحكومية وتسببت في هجرة مئات الآلاف من الأصقم الطبية.

إن الدولة تعلم إنه يوجد طبيب مصري واحد مقابل 1100 فرد في حين أن الرقم المعتمد عالميا هو طبيب لكل 400 فرد، وأن هناك 220 ألف طبيب مصري مسجلين في النقابة، منهم 120 ألف هاجروا خارج البلاد، وإن  هناك أرقاما أشارت إلى استقالة ما بين 3 إلى 4 آلاف طبيب من وزارة الصحة كل عام في السنوات الخمس الأخيرة.

ورغم نقص عدد الأطباء وضعف الرواتب والإمكانيات، حاول الكثيرون تقديم الحد الأدنى المطلوب من الخدمة الطبية في ظل المتاح ومع ذلك استمرت حالات التنمر والاستهداف على كثير منهم، من واقعة قيام محافظ يفصل طبيبا من موقعه كمدير مستشفى لأنه شارك مواطنين فرحتهم بشفاء مريض إلى أن وصلنا إلي واقعة إهانة طبيبة لأنها التزمت باللوائح والقوانين.

مطلوب من الدولة بكل مؤسساتها مراجعة الطريقة التي يتم بها التعامل مع الأطباء وكأنهم الحيطة المايلة التي يستعرض فيها بعض المحافظين سلطاتهم.

صحيح إنه ليس مطلوبا أن يكون على رأس الأطباء “ريشة” لأنهم تفوقوا وتعلموا ويقومون بعمل مقدر في أي مكان في العالم، إنما أن يحاسب المخطئ سواء كان طبيبا أو يعمل في أي مهنة أخرى وفق قواعد واحدة وشفافة لا تعطي حصانة أو استثناء لأحد.

واقعة محافظ سوهاج كاشفة لأزمات أعمق تتجاوز خطأ محافظ بحق موظف عام لتصل  إلي تزايد حضور مدرسة “اللقطة” في كثير من دوائر صنع القرار بحيث صارت مدرسة “تظبيط  شكل الشغل أهم من الشغل” حاضرة في إدارات ومؤسسات كثيرة.

صحيح أن مصر بحاجة لإصلاح المنظومة الصحية لكن بعيدا عن كاميرات المحافظين، وهو يتطلب أولا مضاعفة ماتنفقه الدولة على الصحة والتعليم، وأيضا الاستماع لرأي الخبراء في مسار وطريقة إصلاح المنظومة الصحية.

لن تحل مشكلات المستشفيات الحكومية بالاستعراض أمام الكاميرا أو بالصريخ والشعارات الجوفاء إنما ستحل بالعلم والإرادة السياسة، وبوجود خطة حقيقية لحل مشكلات المنظومة الصحية وهي كلها تحديات أبعد ناس عن حلها محافظين “اللقطة” والصوت العالي.