في 11 نوفمبر 1976، وقف الرئيس الراحل أنور السادات في مجلس الشعب، وأعلن بشكل منفرد ومفاجئ تحويل المنابر الثلاثة، منبر مصر العربي، ومنبر الأحرار، ومنبر التجمع، إلى ثلاثة أحزاب سياسية، لتبدأ مصر بعدها مرحلة تعدديتها الحزبية الثالثة، اصطلح وقتها على تسميتها باسمين مختلفين. الاسم الأول ابتكرته السلطة، وهو “التجربة الحزبية”، وهو مصطلح استخدم لأكثر من ثلاثة عقود، وربما يحلو للبعض استمرار استخدامه، كون ما هو كائن لا زال في إطار التجريب الحقيقي، الذي لم يثبت نجاحه كخيار سلطوي، وليس شعبيا، مقابل اعتبار الأحزاب كيانات، تتمخض عن حركة الشارع، ولا تُخلق بإرادة السلطة، كما جرى. الاسم الثاني، وهو اسم ابتكرته أدبيات العلوم السياسية لكل ما شابه الحالة الحزبية المصرية، وهو “التعددية الحزبية المقيدة”، وهو تعبير عن حال الترهل في البناء الحزبي النابع من تشرذم الأحزاب، ومحاولات خنقها وحصارها الدائم من قبل السلطة، وهو أيضا أمر لا زال صالحا للاستخدام لوصف حالنا حتى يومنا هذا.
بعد ذلك بأشهر معدودة وبإرادة ساداتية صرفة، جرت محاولة القضاء على حزب مصر، بعد أن شرع السادات في تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، والذي كان تأسيسه تأسيسا مضحكا، لأنه بمجرد الشروع الرئاسي في ذلك تبارت الأغلبية العظمى من أعضاء حزب مصر للمشاركة في تأسيس الحزب الوطني، وإخلاء حزب مصر (حزب السلطة وقتئذ). بعد ذلك ببضعة أسابيع وبسبب غضب الرئيس السادات من حزب التجمع يساري التوجه؛ بسبب زيارة السادات إلى القدس في 19 نوفمبر1977، شرع السادات في تأسيس كيان سياسي جديد، هو “العمل الاشتراكي”، بزعامة المهندس إبراهيم شكري، وعندئذ جرى ذات السيناريو، حيث انتقلت قيادات حزبية محسوبة على السلطة ومنهم، محمود أبو وافية زوج شقيقة جيهان السادات، لتأسيس التنظيم الجديد، وتم منح الدعم للحزب من قبل نواب الموالاة في مجلس الشعب كحزب خامس مع عودة حزب الوفد وقتئذ، وقد أسمى السادات الحزب الجديد صراحة “المعارضة بتاعتي”. لكن ولأن الرياح تسير أحيانا على غير ما تشتهي السفن، تمرد “شكري” على السادات، بسبب توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد في 17 سبتمبر1978، ومعاهدة السلام مع إسرائيل في 26 مارس 1979، وأصبح الحزب معارضا فاعلا كحزب التجمع.
في كل تلك الخطوات، عرفت مصر عبر تجربتها الحزبية الثالثة مسألة اللعب بالتنظيمات الحزبية عبر تأسيس ما تريد وتنحية ما تريد. لكن هذه اللعبة أخذت شكلا عنيفا في 5 سبتمبر 1981، بالقبض على كل رموز المعارضة الحقيقية بمن فيهم قادة التيار الليبرالي ممثلا في حزب الوفد.
وعندما تولى مبارك السلطة في أكتوبر1981، أخرج كل من كان بالسجن لكسب شرعية جديدة لحكمه حديث العهد، ومنذئذ عرفت السلطة لعبة جديدة مع المعارضة الحزبية، سعت من خلالها لتدجينها، وكسر شوكتها، وقد تمثل ذلك في أسلوبين: –
الإبقاء على جماعة الإخوان المسلمين، كدليل على أن السلطة تهتم بالتيار الإسلامي، والتأكيد على أن هذا التيار يمكن أن يكون رديفا غير حزبي لكسر أنف أحزاب المعارضة ذاتها. وقد قام نظام مبارك بذلك بحرفية عالية، إذ أبقى على الإخوان كمهدد للحياة المدنية ممثلة في الأحزاب التي بات جميعها يضعف تدريجيا، حتى وهن عظمها في نهاية حكمه. وفي ذات الوقت بذل نظام مبارك جهدا، حتى لا يصل بالجماعة إلى الحد المهدد لكيانه، كونها هي الأخرى خبرت اللعبة جيدا بغرض البقاء كتنظيم سياسي. كما قام نظام مبارك خلال تلك الحقبة بالتدخل في شؤون كافة أحزاب المعارضة، ما جعل نظامه أشبه بقيادة مسرح عرائس، ما لبث أن انقلب عليه بعد أن فشل في إبقاء ذات السيناريو، وقد تم ذلك بفعل خلق معارضة مدنية قوية وغير حزبية ضد توريث السلطة، ساهمت في انتفاضة شعبية كبرى، في يناير2011.
في نظام مبارك، كان تأسيس الأحزاب على هوى السلطة من خلال تشكيل لجنة للأحزاب السياسية، يهيمن عليها موالون للحزب الوطني الديمقراطي وفق قانون 40 لسنة 1977، وكانت النشأة التي غلب عليها الطابع الورقي أو البيروقراطي نشأة معيبة لأحزاب، لم يكن لغالبيتها العظمى أية امتدادات في الشارع. وقد انتهى عصر مبارك بوجود 24 حزبا، نشأ الكثير منها بأحكام قضائية. في ذلك الوقت كانت السلطة تسعى كلما برز اتجاه فكري لحزب ما، أن تقوم بتفجيره من الداخل، فعلت ذلك بشكل واضح مع حزب العمل، بعد أن اتهمته بالتحالف مع الإخوان المسلمين عقب الائتلاف الذي تم بينهما عشية انتخابات البرلمان عام 1987، ففجرت الحزب من الداخل. وكانت هناك محاولات قبل ذلك من خلال تعيين قيادات الحزب في مجلس الشعب، وهو ذات الأسلوب الذي تم مع الوفد عام 1990 بتعيين قيادات منه في البرلمان. وقد استمر هذا الأسلوب مع الوفد، حيث استغلت السلطة وفاة فؤاد سراج الدين عام 1990، فعبثت بالحزب وقياداته، بذات قدر عبثها بحزب التجمع الذي، تم تدجينه تحت قيادة رفعت السعيد. بالطبع كان أمن الدولة مخترِق لجميع أحزاب المعارضة، رغم علم السلطة بأنه لا خوف من الغالبية العظمى منها، لكن بقي هذا الجهاز يحمل صكوك الوطنية، لمن يعمل من الأحزاب ضد السلطة– وليس بالضرورة الدولة- ومن يعمل لصالحها. لذلك كثيرا ما منعت لقاءات وصحف حزبية واجتماعات تنظيمية ومؤتمرات شعبية، وتفجرت المشكلات الحزبية داخل ردهات المحاكم وساحات القضاء بتحريض من حكم مبارك، بالرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تعقد اجتماعاتها، وتشارك في انتخابات البرلمان في وضح النهار بالتنسيق مع السلطة في معظم الأحيان كما حدث في انتخابات 2005.
لم يختلف الأمر كثيرا بعد حركتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013. حيث عُدل قانون الأحزاب، وتعمد المجلس العسكري إحداث سيولة في نشأة الأحزاب، حتى لا يهيمن تيار واحد على الساحة السياسية، فنشأ أكثر من 80 حزبا بعضها بأحكام قضائية، كثيرا منها وصف ذاته بأنه ليبرالي والعديد منها وصف نفسه بأنه قومي ويساري، وبعضها وصف كونه إسلامي وثلة منها بأنه وسطي، رغم ما هو معروف للكافة، أن البلاد لا تختلف في 80 مشكلة على الإطلاق. بعبارة أخرى، أريد بالكثرة في عدد الأحزاب إثبات التحرر من قيود مبارك، وفي الخفاء كان الغرض الحقيقي تشتيت الجهد والعمل السياسي، خاصة بين الأحزاب ذات التيار الواحد. وبعد 30 يونيو 2013 وتبلور قوة بعض التيارات الحزبية، بدأت اللعبة القديمة من الدولة العميقة، فبمجرد اتضاح قوة حزب المصريين الأحرار داخل البرلمان منذ عام 2016، بدأت لعبة تفجيره من الداخل، وهو ما حدث بالفعل. بالمقابل سعت السلطة التي مردت– رغم الدستور المانع لوجود حزب للرئيس- على تأسيس حزب أكثر قربا منها، فنشأ مستقبل وطن كرديف لهيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي والوطني الديمقراطي ودعم مصر، ومن الخلف أحزاب أخرى موالية أقل شأنا كحماة الوطن والشعب الجمهوري.
خلال تلك الفترة، كانت هناك مساع لضرب المعارضة الجادة، وتلميع الهوامش، وقد تبين ذلك في انتخابات الرئاسة 2018 و2024. فظهر اسم مرشح الرئاسة الكرتوني عن حزب الغد عام 2018، وفي انتخابات 2024 ظهر مرشحون آخرون للمعارضة، بعضهم لا يزيد أهمية عن مرشح الغد في الانتخابات السابقة. وبالمقابل تم توقيف مرشح محتمل أكثر قوة، قدم للمحاكمة، وحكم عليه بالسجن، حتى لا يكرر التجربة لا سياسيا ولا قانونيا، لكون القانون يمنع المدان من الترشح للرئاسة. في هذه الأثناء تم تكريس نظام الانتخابات البرلمانية بالقوائم المطلقة بنسبة 50% من أعضاء البرلمان المنتخبين عام 2020، بعد أن كان في انتخابات 2015، بنسبة 21%. وهذا النظام الأخير يعين فيه- أو يفوز بالتزكية- تقريبا نواب المعارضة المدجنة، لأنه يمنح القائمة الحاصلة على 51% من الأصوات 100% من المقاعد، وبذلك فإن الحزب القريب من السلطة، وهو حزب مستقبل وطن الذي يقود القائمة، هو من يحدد له من يستبعد من الأحزاب، ومن يشارك فيها وبأي نسبة بغرض العقاب أو المكافأة، وهذا الأمر أفرخ برلمانا تمريريا Rubber Stamp منزوع السلطة بحكم الأمر الواقع. وسط كل هذه الأجواء تم عام 2015 تمرير قانون الكيانات الإرهابية، وهو قانون حُشر فيه حشرا بعض قيادات المعارضة، التي لا تنتمي لجماعة الإخوان أو لداعش، ولم يسبق لتلك القيادات أن مارست العنف الفعلي، بل أن بعضها ينتمي لليسار وللحركة المدنية.
وهكذا عرف النظام المصري، منذ التعددية الحزبية الثالثة أشكالا مختلفة لاختيار معارضيه واستبعاد المناكفين منهم، وهذا الأمر يتحتم في الأشهر القليلة القادمة الإقلاع عنه، خاصة ونحن بعد سنوات قليلة، سنكون أمام انتخابات رئاسية لن يكون الرئيس السيسي بحكم الدستور مشاركا فيها، وهي بالتأكيد تحتاج لقوى سياسية غير كرتونية، قوى فاعلة تستطيع الذود عن البلاد ومصالحها بعيدا عن العنف، بغية تحقيق السلام الاجتماعي، واللحاق بالدول والمجتمعات المتمدينة.