جمال طه

كان رئيس الوزراء الإثيوبي «آبي أحمد»- المحرض على تمرد ميليشيات الدعم السريع ضد الجيش- أول زعيم أجنبي ــ منذ نشوب الحرب منتصف إبريل 2023ــ، يهبط بمطار بورتسودان التابع للدولة السودانية يوم 9 يوليو 2024، حيث استقبله الفريق البرهان- رئيس مجلس السيادة، القائد الأعلى للجيش- على المهبط، وقاد بنفسه السيارة الرئاسية الجديدة «موديل 2024»، من المطار لمقر الضيافة.. وهناك  تبادلا الاتهامات، للجيش السوداني بدعم متمردي تيجراي، وإلى أديس أبابا بدعم مليشيا حميدتي.

وفي يوم 18 يوليو، تم التواصل تليفونيا بين محمد بن زايد حاكم الإمارات– الداعم الأول للميليشيات المتمردة- والبرهان، تمهيدا لعقد قمة رؤساء تذيب جبال الجليد بين البرهان وبن زايد وآبي أحمد، دون مشاركة حميدتي زعيم الميليشيات!!

صحيفة «ميدل إيست آي»، أكدت اتفاق الدول الثلاث على وقف دعم الميليشيات، ومنعها من العمل عبر الحدود، في انقلاب استراتيجي لمواقف القوى الفاعلة في الحرب السودانية، يفرض التعرف على مبرراته وأبعاده.

***

إثيوبيا منذ بداية الحرب لا تعترف بقيادة الدولة السودانية، ودعت لفرض حظر جوي، يشل طيرانها، وتجريد جيشها من الأسلحة الثقيلة توطئة لهزيمته أمام الدعم السريع، والإمارات، ظلت تحاول إسقاط نظام البرهان، للسيطرة على السودان من خلال الميليشيات..

لكن الدولتين تراجعتا عن هذه المواقف استجابة للمبادرة الأمريكية بتوسيع منبر جدة، بإضافة مصر والإمارات ومنظمة «إيجاد» إليه؛ دعما لفاعليته في وقف الحرب وتسوية الأزمة، بعد أن جلب استمرارها إيران رسميا للساحة السودانية، إضافة الى روسيا.

 وتسعى الدولتان للاستحواذ على قاعدة عسكرية بحرية قرب بورتسودان، بخلاف تذمر حلفائهم فى الإقليم من الانعكاسات السلبية للحرب على الأمن والاستقرار الداخلي.

***

البرهان كان رافضا لمشاركة الإمارات في منبر جدة لدعمها استمرار الحرب، لكن وليد الخريجي نائب وزير الخارجية السعودي- الذي وصل بورتسودان قبل يوم واحد من وصول آبي أحمد- طمأنه الى أن الهدف من التوسيع المسارعة بالتسوية، ووعد بمرونة في مواقف الأطراف الداعمة للميليشيات..

وأبدى البرهان ترحيبه، شريطة تنفيذ ما تضمنه اتفاق وقف إطلاق النار في مايو 2023، من انسحاب الدعم السريع من المستشفيات،والمرافق العامة، ومنازل المواطنين، وتجمعهم في معسكرات، خاصة خارج المدن لحين استكمال شروط التسوية.

البرهان ونائبه الفريق أول شمس الدين كباشي، ومساعد القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ياسر العطا، اتفقوا أن المبادرة تمثل تحولا مهما في مسار الحرب، والتجاوب معها قد يحد من تدفق الدعم للميليشيات، وربما أدى لتقويض تمددها، لكنهم قدروا وجود تيار داخل الجيش واتجاهات الإسلام السياسي، يرفض التفاهم مع الإمارات.. اللجان الإلكترونية بدأت في الهجوم على البرهان، ووصمته بالخيانة، ودعت للانقلاب عليه.. لكن القيادة قررت التجاوب للصالح العام.

مبررات التحول الإثيوبي

الجهود الإثيوبية للاستحواذ على إقليم «صومالي لاند»، هددت بحرب مع الصومال، التي سارعت بتوقيع اتفاقات دفاعية مع تركيا ومصر، البحرية التركية تستعد للتوجه إلى الصومال دفاعا عن مصالحها، وقد تلحق بها قوات مصرية.. ومقديشو بدأت تأليب إقليم «بونت لاند» ضد «صومالي لاند» مستغلة الخلاف حول المنطقة المتنازع عليها، والصراعات القبلية.

تحالف إثيوبيا مع إريتريا كان يغطى جبهتي الشرق والشمال، لكنهما انكشفا بعد رفض أسمرة استحواذ أديس أبابا على «صومالي لاند»، والاعتراض على تمركز البحرية الإثيوبية فيها، ما يهدد أراضيها، ويشجعها على دعم الجيش السوداني في مواجهة الميليشيات المدعومة من إثيوبيا والإمارات..

إريتريا عقب احتلال الميلشيات لولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، افتتحت معسكرات تدريب لمجموعات سودانية مسلحة موالية للجيش، دعما له قابل للتصاعد.. أما جيبوتي فقد بدأت دعم الجماعات المعارضة في «صومالي لاند».. كل ذلك فرض على إثيوبيا تهدئة جبهة السودان، ومحاولة استيعابها، لأن انضمامها للصومال وإريتريا وجيبوتي يحكم طوق الحصار عليها.

***

زيارة آبي أحمد لبورتسودان تمت في أعقاب معلومات تتعلق بمشاركة أعداد كبيرة من ميليشيات «فانو» الإثيوبية المعارضة –التي تنشط قرب حدود السودان- في القتال ضمن صفوف قوات الدعم السريع، للتدريب والتطعيم الميداني، ومحاولة فتح الحدود المشتركة ضمانا لتدفق الدعم، والهجوم من العمق السوداني..

هذا المتغير فرض على أديس أبابا التنسيق مع الجيش السوداني لتأمين الحدود، ومنع استخدام أراضيه كقواعد للمعارضة، إضافة لقطع الطريق على مسلحي جبهة تحرير تيجراي الذين رفضوا اتفاق جوهانسبرج، ولجأوا بأعداد كبيرة للسودان.. والأهم، مراجعة إثيوبيا لاستراتيجية التعامل مع «حميدتي»، لأن دعمها له لم يمنعه من العبث بأمنها القومي. 

***

عقب سيطرة حميدتي على مدينة «سنجة» عاصمة سنار، والتوغل بولاية القضارف التي تستضيف أكثر من 600 ألف نازح سوداني، وعشرات الآلاف من اللاجئين الإثيوبيين، بدأ الجيش السوداني قصفا مكثفا لتلك المناطق، ما أخل بأمن الحدود الإثيوبية، وهدد بتفجير الأوضاع الهشة بمنطقتي أمهرا وتيجراي.. وضاعف هذا التطور المخاوف من احتمالات تدفق اللاجئين إلى إثيوبيا، حال سيطر «الدعم السريع» على مدينتي «دمازين» 90 كيلومتراً من الحدود الإثيوبية، و«القضارف» التي تبعد عن مدينة «المتمة» الحدودية بنحو 150 كيلومتراً..

 قدرت إثيوبيا، أن تعاونها لمنع الميلشيات السودانية من السيطرة على الحدود هو الضمانة الوحيدة؛ لتجنب مخاطر تدفق المهاجرين، ومنع استفادة ميليشيات «فانو» من السيولة الحدودية.

والحقيقة، أن سياسة إثيوبيا تجاه اللاجئين تختلف كلية عن دول الإقليم- بما فيها مصر- فقد لجأ اليها بعد اندلاع الحرب السودانية قرابة 21 ألفا، استقبلتهم بمعسكر «ترانزيت» تحت إشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، غادر منهم 6 آلاف- بينهم أكثر من ألفي طفل- سعيا للتسلل الى المدن، لكن السلطات رصدتهم، ومنعتهم، وأجبرتهم على المكوث في غابات «أولالا»، وسط ظروف معيشية مريرة.. ملتزمين سياسة حازمة، لمواجهة مخاطر اللاجئين على اقتصاد الدولة وأمنها.

دوافع استجابة الإمارات

وتقبلت الإمارات دعوة التفاهم مع السودان، استجابة لضغوط حلفائها في الإقليم «إثيوبيا، تشاد، جنوب السودان، كينيا، والاتحاد الإفريقي».. فالجيش السوداني بعد تقدم الميليشيات بولاية سنار، هدد بتوجيه ضربات جوية لمراكز الدعم اللوجيستي خارج حدود البلاد، «خاصة تشاد وإفريقيا الوسطى».. 

قاعدة «أم جرس» شمال تشاد هي، المركز اللوجيستي الرئيسي للدعم الإماراتي، لذلك حذرت الإمارات من أنها لا يمكن أن تخاطر بتعريض عمقها للقصف، لأن ذلك يهدد نظام الحكم.. وضاعف قلقها عجز الميليشيات عن اقتحام مدينة الفاشر رغم حصارها منذ إبريل 2024، واقتراب الجيش من التحرير الكامل لمدينة أم درمان، ونجاحه في إجهاض هجمات للدعم كانت كفيلة بالسيطرة على قاعدة «وادي سيدنا» الجوية الاستراتيجية، وتوفيقه في قطع العديد من خطوط امداد الميليشيات في الخرطوم.

جنوب السودان أيضا مارست ضغوطا على الإمارات، فالحرب عطلت ضخ النفط الجنوبي عبر بورتسودان، ما أحدث أزمة اقتصادية خانقة، ومخاطر أمنية نتجت عن انضمام أعداد كبيرة من قبائل النوير- المعارضة لسلفا كير وقبائل الدينكا الحاكمة- لميليشيات حميدتي، واقتراب القتال من الحدود المشتركة يهدد بتسللها، وتدفق اللاجئين وسيولة تهريب الأسلحة، وهو ما لا تحتمله أوضاع البلاد، حتى بعد صفقة الـ 13 مليار دولار الإماراتية.

التقدير

نقطة البداية في تنفيذ المبادرة لم تكن مبشرة؛ فبعد اتصال يوم 18 يوليو، ادعى كل طرف أن الآخر هو الذي بدأ، لكن الحقيقة أن ابن زايد كان هو القائم بالاتصال، والبرهان استقبل المكالمة بحضور رجاله ومساعديه، واستمرت زهاء نصف ساعة، تحدث خلالها أغلب الوقت، منتقدا الدور الإماراتي المعادي للسودان وشعبه، ومهددا بأنه ما لم يتغير هذا التوجه، فإن السودان، لن يقبل بالإمارات جزءاً من منبر تسوية الأزمة أو معالجة آثارها الإنسانية..

الاتصال أذاب جبل الجليد، وفتح الباب لاستكمال المبادرة إذا ما خلُصَت النوايا.

المبادرة سواء نجحت أو فشلت، فقد عكست محاولة إثيوبيا إعادة تنشيط دينامية تحركاتها الدبلوماسية بالمنطقة، لمنع دول القرن الإفريقي من حصارها، وبالتالي تحول موقفها والحليف الإماراتي من الدعم المطلق للتمرد، إلى الحياد، والاعتراف بشرعية مجلس السيادة، وذلك بعد عجز حميدتي عن حسم نتيجة الحرب لصالحه رغم عام ونصف من الدعم العسكري غير المحدود..

نيران الحرب هددت أمن إثيوبيا ومصالح حلفاء الامارات بالمنطقة.. والممارسات الهمجية للميليشيات والمرتزقة متعددي الجنسيات، أكدت أنهم قد يسقطون نظاما، لكنهم لن يستطيعوا إدارة دولة في حجم السودان، وانتصارهم يعني الفوضى والسيولة وانعدام الأمن بامتداد حدود دول المنطقة.

تحمس آبي أحمد للمبادرة يرجع الى أنها تحقق بالنسبة له إنجازا إقليميا، فقد تمكنه من التفرغ لحسم قضية الاستحواذ على «صومالي لاند»، وامتلاك قوات بحرية تعزز ثقله، وتقطع الطريق أمام محاولات «وليام روتو» رئيس كينيا الذي يسعى لتزعم القرن الإفريقي، بعد زيارته لواشنطن في يونيو، وحصوله على درجة حليف للولايات المتحدة من خارج حلف «ناتو»، مما يفسر مراجعة إثيوبيا لأوراق اللعبة في المنطقة، ومحاولة تأكيد قدرتها على أداء دور وظيفي لخدمة المصالح الأمريكية، بقوة بحرية قادرة على مناوئة الحوثيين، وإحكام السيطرة على مضيق باب المندب، وهو ما يلقى ترحيب واشنطن؛ لأنه يجنبها التورط المباشر.

وبالنسبة لمصر، فإن المبادرة فرصة جيدة للمشاركة كطرف فاعل في وقف الحرب السودانية وتسوية الأزمة، بعد أن نجحت في جمع كل ألوان الطيف السياسي والمدني بالسودان يومي 5 و6 يوليو، رغم أن المؤتمر لم يحقق اختراقا سياسيا، يدفع بتسوية الأزمة الى الأمام.. فهل تستغلها الدبلوماسية المصرية كبداية لترتيبات استراتيجية مهمة مع الخرطوم بشأن القضايا الحيوية المشتركة؟!