كان كل شيء في مصر يشير إلى تهالك النظام وقرب نهايته.
عندما ألغى الزعيم الوفدي “مصطفى النحاس” “باسم الشعب” اتفاقية (1936) في أكتوبر (١٩٥١)، انتهت صفحة كاملة من التاريخ المصري، قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (٢٣) يوليو (1952).
بتوصيف شيخ المؤرخين المعاصرين الدكتور “يونان لبيب رزق”، فإن إلغاء الاتفاقية “أخرج المارد من القمقم، الذي أجهز على ما بقي من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يُعيده حتى الوفد نفسه”.
انفسح المجال واسعا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح في منطقة قناة السويس، وكان الضباط الأحرار في قلب المشهد التاريخي.
ساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين، وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح في قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها.
تسجل مذكرات “كمال رفعت”، أحد أبرز وجوه “يوليو”، تجربة الفدائيين ودور “الضباط الأحرار” تنظيما وتدريبا وتسليحا.
كان ذلك تطورا جوهريا في النظرة العامة داخل جيل الأربعينيات للقضية الوطنية، بعد أن بدا اليأس كاملا من أي جلاء لقوات الاحتلال بالتفاوض.
تجاوزت العمليات الفدائية أية أعمال فردية سابقة، شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة أفراد قوات الاحتلال، والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.
حسب شهادة “كمال رفعت”: “شاركت في عمليات الفدائيين بمنطقة القناة بعد إلغاء المعاهدة، وكان ذلك بمعرفة رئاسة التنظيم”- قاصدا “جمال عبد الناصر”، الذي ربطته به علاقة وثيقة منذ مطلع شبابه حتى النهاية.
“بعد حريق القاهرة قُبض على أفراد التنظيم الفدائي وصودرت أسلحته”.
توقفت العمليات الفدائية؛ بسبب تلك الاعتقالات، لكن بعد شهور قليلة، كان الرد مدويا، بما جرى يوم (٢٣) يوليو.
لم يكن “الضباط الأحرار” من قماشة سياسية واحدة، جاءوا من مشارب فكرية واجتماعية مختلفة.
بالتكوين السياسي تباينت الانتماءات بين ثلاثة توجهات رئيسية.
أولها- مستقلون لا علاقة لهم بأي حزب أو تنظيم، ولا تعرف عنهم أية انتماءات فكرية أو تنظيمية باستثناء التوجه الوطني العام، والغضب على مستويات الأداء السياسي والعسكري وفساد النخب الحاكمة.
كان من بين هؤلاء “عبد الحكيم عامر” و”زكريا محيي الدين” و”صلاح سالم” و”جمال سالم” و”أمين هويدي” و”حلمي السعيد” و”ثروت عكاشة” و”كمال الدين رفعت” و”محمد نجيب”، الذي لم يكن عضوا في التنظيم، لكنه ضم إليه؛ ليكون على رأس الحركة لرتبته كلواء وشعبيته وسط الجيش.
وثانيها- ضباط منتمون إلى “حدتو” اليساري، من بينهم “خالد محيي الدين” و”يوسف صديق” قادمان من “الإخوان المسلمين”، و”أحمد حمروش” و”لطفي واكد” قادمان من “مصر الفتاة”، و”أحمد قدري” مسئول طباعة منشورات “الضباط الأحرار”، و”آمال المرصفي” أصغر “الضباط الأحرار” قادما من “أسكرا”، وهو تنظيم ماركسي أقرب إلى الصفوة المثقفة، و”أحمد فؤاد” رئيس مجلس إدارة بنك مصر فيما بعد.
وثالثها- متأثرون بجماعة “الإخوان المسلمين” مثل “أحمد أنور” قائد البوليس الحربي، الذي اتهمته الجماعة، فيما بعد بتعذيب كوادرها في السجن الحربي، أو لهم اتصالات بها مثل “حسن إبراهيم” نائب رئيس الجمهورية فيما بعد و”أبو الفضل الجيزاوي”، الذي كان من أبرز معارضي “السادات” في سبعينيات القرن الماضي، أو انضموا إليها في بعض فترات حياتهم مثل “كمال الدين حسين” نائب رئيس الجمهورية فيما بعد و”عبد المنعم عبدالرؤوف” عضو مجلس قيادة الثورة.
كذلك مر عليها “عبد اللطيف البغدادي” نائب رئيس الجمهورية تاليا.
كما مرت بالتأثر أو الانضمام أعداد أخرى من “الضباط الأحرار”.
ما موقع “عبد الناصر” من الجماعة قبل (٢٣) “يوليو” والصدام معها؟
حسب شهادة لـ “خالد محيي الدين” سجلها “أحمد حمروش” في كتابه “شهود يوليو”، فقد انضم إلى الجهاز الخاص برئاسة “عبد الرحمن السندي” مع “عبد الناصر” و”كمال الدين حسين”.
غير أن شهادة “كمال الدين حسين”، التي ضمها الكتاب نفسه، لم تُشر للجهاز الخاص أو “السندي”، وأكدت انضمامه للجماعة مع “جمال عبد الناصر” و”عبد المنعم عبد الرؤوف”، دون أن تذكر اسم “خالد محيي الدين”.
ذلك التضارب في المعلومات الأساسية “من انضم مع من؟” ألقى ظلالا كثيفة على الحقيقة.
في شهادة لـ “فريد عبد الخالق”، أحد مؤسسي الجماعة وسكرتير مرشدها الأول “حسن البنا”، فإن “عبد الناصر” درب متطوعيها على محاربة الاحتلال، دون أن يؤكد عضويته العاملة.
في شهادة مكتوبة للباحث الإسلامي “حسام تمام”، فقد ربطت صداقة وثيقة “عبد الناصر” و”حسن العشماوي” عضو مكتب الإرشاد.
عندما عاد الأخير إلى مصر في سبعينيات القرن الماضي بصفقة بين الجماعة، والرئيس الجديد “أنور السادات” سمع نجله متأثرا بكراهية “عبد الناصر”، يشتمه بأقذع الألفاظ فصفعه قائلا: “لا تشتم عمك مرة أخرى”.
في ظلال القصة شيء إنساني عميق بين رجلين، تصادمت خياراتهما وافترقت طرقهما، وفيما يبدو أن “عبد الناصر” لحظة الصدام لعب دورا غير معلن في حماية صديقه القديم.
غير أن ذلك لا يجيب عن السؤال اللغز: إلى أي حد ارتبط “عبد الناصر” بالجماعة؟
بشهادة لـ “سامي شرف” تعبيرا عن اعتقاد كل من اقترب من رجل “يوليو” في مرحلة مبكرة من تجربته، فإنه لم يكن إخوانيا ولو للحظة واحدة، وإن كان قد اقترب من بعض قيادات الجماعة.
في شهادة غير منشورة، حصلت على مسودتها، يؤكد اللواء “عبد الرحمن فريد”، مدير المباحث الجنائية العسكرية في أيام الثورة الأولى، الذي ضم المشير فيما بعد “عبد الحليم أبو غزالة” إلى عضوية تنظيم “الضباط الأحرار”، أن “عبد الناصر” “لم يكن شيوعيا ولا إخوانيا”.
يروى أن الجماعة حاولت مبكرا الانقلاب العسكري على نظام “يوليو”، لكنها أحبطت، وجرى القبض على “عبد المنعم عبد الرؤوف” وآخرين.
“هرّبه عبد الناصر، لأنه لا يستطيع، أن ينسى دوره في دعم الثورة”.
بشهادة لـ “محمد حسنين هيكل”، الذي تسنى له استقصاء الإجابة من “عبد الناصر” نفسه، فقد اقترب إلى حدود بعيدة من الجماعة في فترة من عمره، ولكن في إطار العمل الفدائي.. واقترب أكثر من “عبد المنعم عبد الرؤوف”، وهو من قادة الجهاز السري.
في هذه المرحلة رأى “السندي”، وبعض الذين كانوا في الجهاز الخاص.
بتوصيف “هيكل” لطبيعة العلاقة التي جمعت قائد “يوليو” مع الجماعة فإنها “كانت فوق السطح ولم تصل عميقا”- كما ورد في كتاب “عبد الناصر والمثقفون” لـ”يوسف القعيد”.
وبشهادة لـ “عبد الناصر” مسجلة بصوته في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية مطلع ستينيات القرن الماضي”.. انضممت إلى حزب مصر الفتاة، لم استرح فتركته، وانضممت إلى الوفد، وكنت من أكثر الناس اتصالا به، وأيضا لم استرح فاتصلت بالإخوان المسلمين، وكذلك لم أطمئن، واتصلت بالشيوعيين، واتصلت بكل الهيئات العاملة في هذا البلد، كما اتصلت بالأحرار الدستوريين والسعديين. كنت أبحث عن الحقيقة كشاب، يريد أن يكافح من أجل بلده، ولكنني كنت تائها، وكنت أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك فائدة، وأخيرا لم أجد أن هناك أية فائدة”.
بصوته، وهو في موقع السلطة، اعترف بأنه كان شابا تائها، يبحث عن طريق.
هناك فارق جوهري بين الحيرة والالتزام، بين ما داخل فكره وتكوينه من تأثير بالاتصال بقوى وتيارات متباينة؛ بحثا عن طريق وبين الانخراط في عضويتها اقتناعا بأفكارها.
الخلط تعسف مع التاريخ والحقيقة.
تنوعت التوجهات الرئيسية بين “الضباط الأحرار”، على نحو جعل التنظيم أقرب إلى جبهة لها أهداف مؤقتة وصراعاتها مؤجلة إلى حين.
بالنظر إلى طبيعة المرحلة وأولوياتها، تبدت درجة عالية من السيولة بين التيارات، رغم تناقض الأفكار.
ما بين التناقضات السائلة، ظهرت توجهات رابعة وخامسة وسادسة أقل أهمية في البنية الفكرية والسياسية لـ “الضباط الأحرار”ـ كأن يميل بعضهم بحكم الأصول العائلية إلى حزب “الوفد”، أو يحافظ آخرون على شيء من الولاء السياسي والنفسي لـ “مصر الفتاة”، أو أن يندفع مغامرون- مثل “أنور السادات”- بالتورط في اغتيالات ومحاولات اغتيالات نفذها “الحرس الحديدي”، الذي كان يقوده طبيب الملك الخاص “يوسف رشاد”.
كان تأسيس “الضباط الأحرار” تعبيرا عن أحوال غضب في الجيش وصلت ذروتها بعد حرب فلسطين (1948).
نشأت خلايا متفرقة تحت قيادات متعددة، لكل ضابط حر رواية، تختلف عن الآخر بقدر ما رأى وعرف وشارك.
حسب الشهادات المنشورة لـ “الضباط الأحرار”، فإن غالبيتهم أدخلوا التنظيم عبر “جمال عبد الناصر”، الذي أحكم قبضته على كل الخيوط.
تجلت مواهبه التنظيمية في جمع أشلاء الخلايا المبعثرة داخل الجيش، ودمج تناقضاتها السائلة داخل تنظيم سري محكم له أهداف عامة عُرفت بـ “المبادئ الستة”.
حافظ على صلاته العامة مع جماعات سياسية متناقضة، ووظفها لمقتضى أهدافه، دون أن يسمح بالتداخل التنظيمي.
لم يجيء ضباط يوليو من فراغ تاريخ، ولا صعدوا من خارج السياق الوطني.
جاءوا من قلب الحركة الوطنية.
هذه حقيقة تاريخية لا يصح إغفالها.