يعتبر تقلد الوظائف العمومية من مجموعة الحقوق العامة التي يجب أن يتمتع بها المواطنون على قدم من المساواة، حسبما تتضمنه الاشتراطات القانونية لتولي الوظيفة، لا تمييز بينهم ولا ترتيب سوى للكفاءة المتطلبة؛ لتولي الوظيفة المعلن عنها، وذلك بحسب كون الوظيفة العامة هي سبيل؛ لتنفيذ سياسات الدولة في إطار قانوني، وهو الأمر الذي أكده الدستور المصري بجعله الوظيفة العامة حقاً لكل المصريين، حسبما تتطلبه تلك الوظيفة من اشتراطات، وهذا الامر يعد تأكيداً، لما أرسته اتفاقيات حقوق الإنسان من أسس حقوقية، لما يجب أن يكون عليه حال الوظائف العامة، وعلى الرأس من تلك الاتفاقيات يأتي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بعد أن أرسى المبدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذا بخلاف العديد من الاتفاقيات والمواثيق الإقليمية، أو تلك المرتبطة بالحق في العمل، والمثمر من كل هذه الاتفاقيات، أن ذلك الحق يقوم على أساس مجموعة من المبادئ أو القيم التي تؤسس لضمان حسن الاختيار، والتي لا تخرج عن نطاق المساواة وعدم التمييز أو المحاباة، وأن يكون ذلك الاختيار على أساس مبدأ الجدارة ، وهو ما يعني اختيار الأكفاء لتولي الوظائف.

وإن كان ما سبق هو ما يشكل الأساس العام في أمر تولي الوظيفة العامة، فإن ما يتم في الواقع الفعلي داخل مصر من تدريب المقبولين في بعض الوظائف العامة داخل الكلية الحربية، حيث أثير مؤخراً تخرج دفعة جديدة من المتدربين المقبولين، من حيث الأصل في بعض الوظائف الدبلوماسية، واجتيازهم للدورة التدريبية المنعقدة لهم داخل الكلية الحربية، وتلى ذلك أيضا تخرج دفعة من المقبولين في الوظائف القضائية من ذات المكان التدريبي، هذا بخلاف خضوع العديد من المقبولين في وظائف معلمين جدد، أو وظائف في وزارة الأوقاف لذات التدريب.

هل يمثل ذلك التدريب أحد، بل أهم الأسس أو الاشتراطات للقبول في الوظائف العامة، من أتى الأساس القانوني لهذا التدريب الذي بات بمثابة شرطا واقفا للقبول بالوظيفة أو عدم القبول، ذلك على الرغم من أن قانون الخدمة المدنية، والذي يمثل الأساس التشريعي الداخلي لأمور الوظائف والتوظيف في مصر، أو لائحته التنفيذية، بما يعد إشارة لمثل هذا الشرط التدريبي، فلم تخرج الاشتراطات القانونية عن الكفاءة أو الجدارة لتولي الوظيفة المعلن عنها، وحسن السير والسلوك، بما يعني عدم سبق الحكم على المتقدم بعقوبة سالبة للحرية في إحدى الجرائم المخلة بالشرف والاعتبار، مع اشتراط اللياقة الصحية، أو البدنية، علاوة على شرط السن المتطلب لشغل الوظيفة.

وإذ أن الزعم الرسمي للترويج لهذه الدورات التدريبية لا يخرج عن ضمان توافر اللياقة الصحية، أو البدنية الجيدة للموظفين المقبولين، لكن ذلك مردود عليه، بأن الكشف الطبي الأولي هو المعيار الحاسم لخلو المتقدم، أو المقبول في تلك الوظيفة من الأمراض التي تمنعه، أو تحول بينه وبين ممارسة مهامها. 

وفي هذا السياق، أعلن موقع اليوم السابع بتاريخ السبت 6 يوليو الحالي عن احتفال الأكاديمية العسكرية بتخرج الدفعة الأولى من المعينين بالجهات القضائية، وأشار ذات الموقع على أن الخريجين قد أظهروا في مشروع تخرجهم من هذا التدريب، ما وصلوا إليه من مستوى علمي متميز في مجالات عملهم، فما علاقة الكيان العسكري بالمسار العلمي للقضاة، أو للعاملين بالمجال الدبلوماسي، حتى يزدادوا علما بداخله؟

ما أعلمه عن تدريب الموظفين الجدد المقبولين في إحدى الوظائف العمومية، وخصوصاً الوظائف ذات الحساسية، لا يخرج عن أن يكون تدريباً متخصصاً تتولاه الجهة المقبول فيها، كما كان الأمر عليه في معهد الدراسات القضائية، وهو الأمر الذي لا يخرجه عن كونه تدريبا تخصصيا مقبولا من الجهة التي سيتبعها المقبول لتولي تلك الوظيفة، وهذا الأمر اعتقد أنه يتم في مقر وزارة الخارجية أيضا.

إذن، فلماذا الخلط ما بين المؤسسات المدنية والمؤسسة العسكرية؟ على الرغم من كونها جميعا تمثل فروعا مكونة للكيان العام للدولة، ولماذا يتم إقحام المؤسسة العسكرية في أمور، تخرج عن نطاقها، أو حدود وظيفتها الرئيسية والدستورية المتمثلة في حماية كيان الدولة وحماية حدودها؟

بل من الممكن، وبشكل أكثر عمومية، فهل لنا أن نتساءل، لماذا تهيمن السلطة التنفيذية على كافة مقدرات السلطات الأخرى، بما يعني تحكميتها أو استيعابها لمعظم المكونات الحقيقية لعمل باقي مؤسسات الدولة، سواء كانت تشريعية أو قضائية. الأمر بات يفوق كافة الأسس والمبادئ الدستورية، وبات أمر التغول على عمل المؤسسات لصالح مؤسسات بعينها، يشكل عيباً دستورياً في تشكيل بنيان الدولة ذاتها، أو لكيفية ممارستها لمهام وظائفها الأساسية.

وإذا ما عدنا إلى أمر الوظيفة العامة، أو ذلك الموظف العام المنوط به القيام بمهام الوظيفة العامة، فلا بد من إسناد الأمر إلى قواعده الأساسية وأصوله العامة، من أن تتولى كل هيئة أو مؤسسة تدريب موظفيها الجدد، بما يضمن حسن قيامهم بمهام وظائفهم، وبما يضمن حسن تمثيلهم للجهة التي ينتمون إليها، بما يخضعها للنظام العام والأسس القانونية والدستورية، لا أن تتحكم في أمور تعيينهم أو تدريبهم جهات أخرى ومغايرة للجهات طالبة التوظيف، وهو ما يخرج نطاق التوظيف عن الهدف العام المرسوم له والمخطط له، وهذا ما يخرج التصرف الإداري عن استهداف الصالح العام حال تبنيه سياسات التوظيف، كما أنه من ناحية مغايرة، فإن استهداف الصالح العام، هو الهدف المثالي من وجود الإدارة بكافة أشكالها وأنواعها وتفصيلاتها، بحسبه الهدف المثالي من وجود الإدارة ذاتها، وتوخيها الصالح العام ومراعاتها للأسس القانونية والدستورية، وعدم خروجها عنه، يعد بمثابة الإطار الحاكم لاستهدافها لتحقيق الصالح العام للوطن والمواطنين.

وانطلاقاً من هذا، فإنني لا أزعم عدم استحقاق الموظفين الجدد لأية تدريبات، لكن كل ما ابتغيه، هو أن يكون شغل الوظيفة من الأساس وفق الأسس القانونية المشترطة، وأن يكون تدريبهم من خلال الأدوات التي تتملكها المؤسسات، والتي بطبيعة الحال تختلف من مؤسسة إلى أخرى، ومن وظيفة لغيرها، وهو ما يعني أن يكون هذا التدريب سعيا؛ لتطوير أداء وطريقة عمل الموظفين العمومين، بما يضمن حسن قيامهم بأعمال الوظيفة العامة، وحسن تمثيلهم للإدارة التي يمثلونها أو ينتمون إليها.