إلى أن ترفع تلك الغمة، سيظل الحبس الاحتياطي في رأي البعض شوكة في حلق نظام 30 يونيو 2013. سيكون هذا الملف هو الناغص لحياة السلطة، إلى أن تقفل هذا الملف بشكل كامل. مواقع التواصل الاجتماعي، والحوار الوطني، ومقالات الكتاب، والباحثين، وقادة الرأي، والبلوجرز، والصحفيين، وكل صاحب قلم حر، لن يسكت على تلك النواكب مهما كان رد الفعل، وسيظل أثرها هو ما يقلق مضاجع كل منتقم، أو منكل، أو مكبل لحرية رأي. لن يستطيع السجان أن يملأ السجون بكل منتقد، أو صاحب رأي غير داعٍ للعنف، ولن يقنع القابع على رأس من أصدر أوامر بالقبض والاعتقال غيره من الناس، أن كل هؤلاء إرهابيون، أو متعاونون مع جماعة إرهابية وغيرها من المصطلحات التي مردت السلطة عليها لوصف حالات البرآء (جمع بريء) من الذين ازدحمت بهم ساحات السجون وأماكن الاحتجاز.
الثلاثاء الماضي، ناقش الحوار الوطني ملف الحبس الاحتياطي، وبعد أيام قليلة سيقوم رئيس المحور السياسي د. علي الدين هلال، بإصدار مخرجات الحوار حول الحبس الاحتياطي. المخرجات ستلحق بالمخرجات الـ 135 التي أرسلها الحوار الوطني للرئيس عبد الفتاح السيسي، الداعي للحوار قبل انتخابات الرئاسة الماضية، لتنضم إلى نحو 10 توصيات أخرى، أصدرتها بعض اللجان الاقتصادية في المحور الاقتصادي، وأرسلت أيضا للرئيس في إفطار الأسرة المصرية في رمضان الماضي. فهل ستضع الحكومة مخرجات جلستي الحبس الاحتياطي على الرف إلى جانب مخرجات الجلسات السابقة التي لم ينفذ منها شيء؟
في اللقائين اليتيمين مع اللجنة المنبثقة عن مجلس أمناء الحوار الوطني قبل التغيير الوزاري الأخير في حكومة مدبولي- والتي حضرهما كاتب هذه السطور- وعد رئيس الوزراء بتنفيذ عشر من المخرجات كل شهر، سواء تلك المخرجات التي ستنفذ من خلال قرارات تنفيذية، أو تلك التي تحتاج لتشريعات يسنها مجلس النواب. الوعد الحكومي ذهب أدراج الرياح. فهل ستكون مخرجات الحبس الاحتياطي هي الأخرى لها ذات المصير؟
هذه المرة ستكون الفضيحة مدوية، ويكون الحنث بوعد بتنفيذ مخرجات الحوار بلا نقاش مشكلا أزمة ثقة كبيرة في نظام 30 يونيو 2013، بعد أن كادت أزمة قطع الكهرباء أن تكبل حركته شعبيا. صحيح أن الحكومة في مصر مردت على خرق الدستور مرات ومرات، ونكثت بكل التوقيتات التي به، وقت سن قانون العدالة الانتقالية، ووقت سن قانون الإدارة المحلية، ووقت سن قانون منع ندب القضاة لجهات غير قضائية، وتأخرها في سن قانون مفوضية منع التمييز، ناهيك عن نكوصها بتعهدات دستورية، تتصل بتقديم الدولة الخدمات الصحية بالمجان بتأجيرها للمستشفيات، والتزامها الدستوري بعقد انتخابات نزيهة، ثم تزوير إرادة الناخبين عبر القوائم المطلقة، إضافة إلى الوعود والعهود بغاز ظهر الذي يكفي الأجيال، وكفالة حياة كريمة للناس، ثم زيادة معدلات الفقر لما فوق الـ 35%، وتعليق كل مشكلات مصر على الأزمات الخارجية ككوفيد، وحرب روسيا، وعدوان غزة… إلخ إلخ. لكن هذه المرة سيبدو النكوث والتقصير واضح وظاهر للعيان، خاصة وقد ثبت أن الناس، لم ولن تسكت أبدا عن المطالبة بمعاملة كريمة، وغير حاطة للكرامة، لا سيما وأن الكثيرين منهم ينظرون لشاشات التلفزيون يوميا، ويشاهدون المعاملة الناعمة التي تعامل بها سلطات الاحتلال الغاصب للإنسان والأرض والثروات والمقدسات، المتظاهرين الصهاينة في شوارع وميادين فلسطين المحتلة!!
واحد من أبرز القضايا المثيرة للمشكلات هو موقف النيابة من الحبس الاحتياطي، فهل يجوز للنيابة أن تقوم بحبس المتهم، كما تقر القوانين ويحدث بالفعل في أرض الواقع، رغم أنها خصم!!! بعبارة أخرى، أنه يتوجب على أي مراجعة قانونية لإنهاء تلك المشكلة من جذورها، أن يتم الرقابة على القائم بتجديد الحبس، بخلق سلطة رقابية عليه، كي تراجع قراراته، باعتباره طرفا في المشكلة محل النظر.
المشكلة الثانية، هي أن الموقوف يحبس احتياطيا لمدة لا تزيد عن 18 شهرا، في الجنايات وسنة في الجنح، ويحدث في الكثير من الأحيان إخلال بتلك المدد، دون أن تكون هناك رقابة على تلك التوقيتات، أو محاسبة لمغتصب السلطة، بدعوى أنها قيود تنظيمية وليست آمرة. الأمر الذي يتوجب معه، حتى تنتهي تلك المشكلة، أن تُغل يد القائم بتجديد الحبس الاحتياطي، بألا يهمل الشخص الموقوف بدعوى عدم انتهاء التحقيق معه، وهو من جدد له الحبس أحيانا كثيرة، لا يكلف ذاته بالانتهاء من الدعوى بالإفراج أو التحويل للمحكمة.
المشكلة الثالثة، هي هَب أنه قد تم الالتزام بالمدة القصوى للحبس الاحتياطي، فإنه يجري في الكثير من الأحيان تدوير الموقوفين، بإدخالهم في قضايا أخرى، حتى يكون هناك مبرر لبقائهم محبوسين، ما يجعل كل المسألة برمتها سياسية غرضها إذلال الناس، والحط من حقوقهم الإنسانية قبل حقوقهم التي كفلها الدستور والمواثيق الدولية.
المشكلة الرابعة، هى ضعف التعويضات الحالية المقررة للموقوفين حال الإفراج عنهم، وطلب التعويض جراء الضرر. بعبارة أخرى لو أقرت- في قانون الإجراءات الجنائية، وغيره من القوانين ذات الصلة- تعويضات موجعة، والتزمت الدولة، بأن تدفع الجهة المسئولة مباشرة عن الحبس هذه المبالغ من موازنتها، وليست من الموازنة العامة للدولة، يعتقد أنها ستراجع تلك الجهة نفسها مرات ومرات، قبل أن تصدر قرارت متواترة للحبس لذات الموقوف.
المشكلة الخامسة، هي الخلاص كلية من الحبس الاحتياطي بإيجاد بدائل تقنية له لمعرفة مكان تواجد الموقوف، وعدم تجاوز حد مكاني محدد، تم إجباره على عدم تجاوزه، وهو خارج محبسه، إلى غيرها من الوسائل المرتبطة بالتجارب الدولية المختلفة في هذا الصدد.
أخيرا وليس آخرا، فإن أي تعديل قانوني يتحتم أن يتطرق إلى قضية إعادة تأهيل المفرج عنهم، وتسوية الأمور المتعلقة بتداعيات حبسهم، وعلى رأس ذلك رفع أسماء هؤلاء من قوائم الممنوعين من السفر، ورفع أي قيد متصل بحرية تصرفهم في أموالهم في البنوك، والتزام الدولة بإعادتهم لعملهم وتعويضهم عن فترة تغيبهم. ولعل من المفيد هنا التأكيد، أن ما يسري خلال المراجعة القانونية والسياسية لمسألة الحبس الاحتياطي، يجب أن يتواكب معها، مراجعة كافة أوضاع المخاطبين بأحكام قانون 8 لسنة 2015، المعدل بالقانون 14 لسنة 2020، الخاص بقوائم المدرجين في الكيانات الإرهابية.