يعد الاستهلاك واحد من أسوء الظواهر الاجتماعية، إذا ما ارتبط بنوع من الترف الزائد عن حاجة الإنسان، أو تسبب في إحداث قدر هائل من الفوراق الاجتماعية، أو الطبقية بين الناس.

واحد من أهم المؤشرات الدالة عن وجود مجتمعات بها شريحة مترفة، وشرائح أخرى غارقة في الفقر في آن هو أن يكون النظام السياسي القائم على تلك المجتمعات هو نظام قائم على وجود أزمة توزيع كبيرة. ويقصد بتلك الأزمة، أن تكون هناك فوارق شاسعة وغير مقبولة بين الناس، ما يثير بينهم درجة عالية من الأحقاد. ورغم الإقرار بوجود فوارق طبقية بين الناس، “ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات”، إلا أن وجود نظام سياسي يعمق من تلك الفوارق، ولا يعالج الآثار السلبية للتباين بين الناس عبر سياسات اجتماعية، تُحد منها، يفضي إلى حالة من فقدانه للشرعية.    

ما من شك، أن الفوارق بين الطبقات بهذا الشكل الذي نراه، والمفضي إلى حدوث أزمة في النظام السياسي، هو أمر دال على وجود حالة من الخلل الكبير في توزيع الثروات، قد يصل في بعض الحالات لوجود فساد أو قوانين، تدعم تلك الفوارق، وهذا الأمر ناتج عادة عن ضعف المواجهة والمحاسبة، مما يدعم الفوارق غير الطبيعية بين الناس، ويشي بوجود مجتمع، يشرعن الخلل في التوزيع، وربما النهب والاستيلاء على المال العام والخاص، كوسيلة للإرباح السريع وغير المشروع بلا أدنى حساب أو عقاب، حيث يصبح هذا الأسلوب هو السبيل لدى البعض؛ لإحراز مكانة اجتماعية مفتعلة ووجاهة مصطنعة.    

حال التعليم في النظام السياسي هو من المؤشرات الدالة على أسباب ومظاهر الفوراق غير الطبيعية بين الناس، وانتشار قيم الاستهلاك وشره الإنفاق المؤدي إلى أحقاد ونوازع الشر والغل. فالمناهج التي لا تركز على معالجة الفوارق الاجتماعية، وقيم الشفقة والعطف والنجدة، ومساعدة المحتاج كلها من الأمور التي تدعم النزعة نحو فوارق الاستهلاك بين الناس من حيث الكم والكيف في آن. ولا غرو أن طرق التعليم في مصر هي ذاتها أصبحت واحدة من الفوارق بين الناس، من خلال تعدد أساليبه بين العام والخاص، وداخل التعليم الخاص يجد المرء عشرات السبل للاختلاف بين الطلاب والتلاميذ، حتى صار نمط التعليم ومكانه واحد من سبل الوجاهة بين العائلات، في ظل خروقات كبيرة للدستور حول المجانية والإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج القومي الإجمالي. بعبارة أخرى، ما كان يرجو منه أن يعالج شره الاستهلاك الترفي، عاد ليكون واحد من أبرز مظاهرها.

يرتبط بما سبق استشراء أحد العادات المثيرة للاشمئزاز، وهي الاستهلاك التفاخري، حيث يقوم البعض باستعراض قدراتهم المالية عبر الإنفاق الشره على الكماليات، ما يعمق من الفجوة الطبقية، ويحرك ويعمق الشعور بالحرمان والغليان في النفوس، ما يجعل كل مؤشرات الغضب والسخط، ومن ثم عدم الاستقرار السياسي قائما ومتعمقا، ويزداد يوما بعد يوم. 

بطبيعة الحال، يبرز الإعلام؛ ليكون واحد من أكثر الوسائل الداعمة للاستهلاك الترفي والتفاخري، فبدءا من إعلانات الأطعمة ومحلات المأكل الجاهز والدليفري والتيك أوى باهظة الأسعار، انتهاء بإعلانات قرى الساحل الشمالي التي تجاوز ثمن المتر فيها الـ 150 ألف جنيه للمتر المربع الواحد، ليقطنها ملاكها ثلاثة أشهر في العام، ثم تترك للهوام والقوارض طوال العام، مرورا بإعلانات السيارات الفارهة، يجد غالبية المشاهدين ذواتهم في حالة حيرة؛ بسبب محدودية الدخول وسط نوازع الأبناء والزوجات الطامحين في العيش بطرق ووسائل مشابهة والرغبة في محاكاة هذا وذاك، بشكل يفوق قدرة أرباب معظم الأسر، التي يرزح 37,5% منها تحت خط الفقر. ما يفضي في النهاية إلى حالة من عدم المساواة الهيكلية ناتجة عن الشعور غير السوى بالفوارق غير المبررة؛ نتيجة سفة الإنفاق من قبل القلة، مقابل العوز الطبيعي من قبل الكثرة، وسط شعور بالأناملية الفردية من قبل البعض، والإهمال من قبل الدولة لمواجه تلك الفوارق، بل وأحيانا دعمها. في هذا الإطار لا يجد بعض الراغبين في الاستهلاك بغرض المحاكاة من بد، سوى زيارة تلك الأماكن بغرض رؤية الغير، وكأنهم يرون كائنات تعيش عيشة مترفة وغريبة.

ما من شك، أن أحد أسباب الإنفاق والاستهلاك الترفي يرجع إلى زيادة معدلات التضخم في السنوات القليلة الماضية، وهو أمر ناتج عن الفشل الاقتصادي في مواجهة حاجات الناس، ما أفضى في النهاية إلى تخفيض قيمة العملة المحلية (الجنيه)، وهو أمر راجع للاعتماد على مصادر النقد الأجنبي التقليدية، والتي مرد النظام الاقتصادي على الاعتماد عليها، مهملا الانتاج بغرض التصدير. كل ماسبق والذي يُحمل النظام السياسي مسئوليته على العوامل الخارجية (كوفيد/ حرب روسيا وأوكرانيا/ العدوان على غزة)، يجعل الكثيرين من ذوي القدرات المالية الكبيرة، يلجأون إلى تأمين أموالهم عبر شراء العقارات، حفاظا على مدخراتهم، وربما المضاربة بتلك العقارات بعد حين.

واحد من أبرز الأمور التي يمكن من خلالها الحد من الاستهلاك الترفي، هو فرض الضرائب الكبيرة والمتصاعدة، بحيث يصل عائد تلك الوفورات المالية لردم الهوة بين الطبقات، ما يفضي إلى تحقيق قدر مقبول من العدالة الاجتماعية. منذ عقود كبيرة هناك صراع من قبل عديد القائمين على المضاربة في البورصة وسوق الأوراق المالية، وقد أفلح هؤلاء حتى وقتنا هذا لممارسة ضغوطهم؛ لمنع فرض تلك الضرائب. اليوم جاء الوقت لحتمية القيام بذلك بغية تحقيق قدر قبول من المساواة.

الرقابة على الإعلام من خلال التكاتف بين الهيئة الوطنية للإعلام ووسائل الرقابة المختلفة، بحيث يتم تبني ترشيد الاستهلاك، ودعم التوجه نحو شراء كل ما يحتاجه الفرد من سلع ضرورية، ودون الاستفزازية، ولا بأس من التدخل لعض الشيء في فحوى الإعلانات للحد من استفزاز المشاهدين، ودون التدخل في حريات المعلنين.  

إضافة إلى ذلك، من المهم تفعيل تطبيق قانون من أين لك هذا، وكذلك العمل على مواجهة غسل الأموال لمحاربة الفساد، والتركيز على متابعة إقرارات الذمة المالية، وما طرأ عليها من تطور مفاجئ وغير مبرر، وكذلك الرقابة على الأسواق؛ لمواجهة الغلاء، والمواكبة بين تشجيع الاستثمار عبر الحوافز التي يعكف النظام الاقتصادي على تكرارها، وبين عدم الغبن في تحقيق العدالة الاجتماعية بغرض تحقيق المساواة.