الجمهورية الإسلامية في إيران 1979 م غلطة تاريخية، بمعنى أنها أفق مغلق على ذاته، ليست تطوراً طبيعياً لنضال الشعب الإيراني وثوراته، منذ الثورة الدستورية عند مطلع القرن العشرين، ثم عند منتصف القرن، ثم في الربع الأخير منه، كما أنها ليست أفقاً مفتوحاً على المستقبل. كان الشعب الإيراني- مثله مثل الشعب المصري- في نضال ذي ثلاثة أهداف كبرى: وضع القيود على السلطات المطلقة للحكام، الوقوف أمام التدخل الأجنبي وسيطرته على اقتصاد البلاد، وما يتمتع به من امتيازات ظالمة، الحد من التفاوت الطبقي الصارخ بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون غير الفقر، يتوارثونه أباً عن جد. تواطأت الديكتاتوريات مع القوى الأجنبية مع الطبقات المستفيدة على إجهاض الثورات وقمعها والتنكيل بالثوار من كافة التيارات واجتثاثها من الجذور، حتى إذا جاء عقد الستينيات من القرن العشرين، خلت الساحة أكثر للمعارضة الدينية التي كان صوتها الأعلى الإمام الخميني، وكان وقودها الأبرز طلاب الحوزات العلمية (المعاهد الدينية)، أمريكا والغرب لمصالحهم كانوا يرفضون تأميم البترول في إيران، وتأميم قناة السويس في مصر، لكن لمصالحهم أيضاً كانوا يؤيدون الإصلاح الزراعي في البلدين وإعادة توزيع الأراضي والحد من ثروات الإقطاع لصالح الطبقات الفقيرة، وذلك كله من باب سد الذرائع أمام تسرب وانتشار الأفكار الاشتراكية، ومن ثم تسلل النفوذ السوفيتي الذي كانت أمريكا والغرب تراه- في ذلك الوقت- الخطر رقم واحد على أمن الغرب ومصالحه وحضارته في العالم. أمريكا والغرب شجعت شاه إيران محمد رضا بهلوي، على إصلاحات اجتماعية من هذا النوع، لم يتم الإعلان عن الهدف منها، وهو خدمة الاستراتيجية الأمريكية في العالم الإسلامي، إنما تم تقديمها للشعب الإيراني وللمنطقة، على أنها ” ثورة بيضاء ” تضمنت حقوقاً للمرأة في الانتخابات والتوظيف والمشاركة في الحياة العامة وحقوقاً للطبقات الفقيرة في تملك الأراضي، وتأميم بعض أملاك الإقطاع وكبار الأعيان، هذه الثورة البيضاء تم إقرارها بالاستفتاء العام في الأسبوع الأخير من يناير 1963 م، عارضها رجال الدين كما عارضها الإقطاع، رد نظام الشاه بعنف، والعنف وصل حد المذابح، تقدم الإمام الخميني لقيادة المعارضة، وكان الأعلى صوتاً، وألقى عدداً من الخطب العامة، وجه فيها اتهامات صريحة جريئة لحكم الشاه، بأنه خاضع لأعداء الأمة أي أمريكا وإسرائيل، رد نظام الشاه بحملة تشهير ضد الخميني، بأنه يتلقى تمويلات من الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، انفجرت موجات الغضب بين رجال الدين بالذات الشباب منهم، وقعت مذابح جديدة، حاصرت قوات النظام بيت الخميني، جرى اعتقاله قريباً من عام، ثم جرى نفيه إلى تركيا، ثم العراق، ثم جرى التضييق عليه في العراق؛ فهاجر إلى باريس 1978 م، وهناك ورغم تحذير الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، له من التطرق للسياسة، انفتحت الأبواب للخميني واسعة سواء على إيران أو على العالم، وتفاعلت الأحداث على الأرض في اتجاه الثورة، حتى غادر الشاه إيران، وعاد إليها الخميني بعد أربعة عشر عاماً في المنفى، سقط نظام الشاه، انفسح الطريق واسعاً أمام الخميني لتأسيس الجمهورية الإسلامية التي تقبض بيد من حديد ونار على تاريخ إيران، منذ ما يقرب من نصف قرن، وهي ليست أكثر من حالة انسداد تاريخي، فهي ابنة لحظة عابرة، ابنة مشروع شخصي بالدرجة الأولى، تمكنت في لحظة ريبة، في لحظة انهار فيها النظام، دون بديل من داخله، ودون بديل وطني مدني ديمقراطي، إذ كانت الديكتاتوريات تستأصل كل بذرة مدنية أو ديمقراطية ذات طابع ثوري، لكن لم تكن لدى النظام، وأي نظام، أدنى قدرة على استئصال المعارضة الدينية المتحصنة بالحوزات العلمية والمعاهد الدينية والجامعات، كان الخميني لمدة ستة عشر عاماً معارضاَ صلباً قوياً، ذا جلال ومهابة اجتذب القلوب ليس من العوام فقط، لكن كذلك من النخب العلمانية والمدنية، عندما غادر الشاه وعاد الخميني، كانت دولة البهلوية قد سقطت ودولة الخميني قد بدأت، كل التغيير الذي حدث هو استبدال الشاهنشاه بالإمام الأكبر، خرجت إيران من أفق مسدود؛ لتدخل من جديد في أفق مسدود، لكن من نوع مختلف وتحت شعارات مختلفة. 

الجمهورية الإسلامية في إيران 1979 م، مثلها مثل الجمهورية الجديدة في مصر 2014 م، كلتاهما غلطة تاريخية، بمعنى أن كلا منهما استجابة خاطئة لتحديات صحيحة، روشتة خاطئة لأمراض حقيقية. جاءت ثورة إيران بعد مائة عام من حراك ثوري، شاركت فيها الأمة الإيرانية بكل مكوناتها، وكان العدل أن يتوج هذا الكفاح بدولة للجميع، تصون حريات وحقوق وكرامة الجميع، دولة تجمع بين التحديث دون الخضوع للأجانب والهوية الوطنية دون تمكين للاستبداد، وعدالة اجتماعية تضمن لكل إيراني نصيباً عادلاً من خيرات بلده، لكن الذي حدث هو أن الخميني بما حازه من مركز شعبي ودولي مرموق، أخذ إيران- منفرداً- في اتجاه لم يكن يخطر على بال أحد، فبدلاً من التحديث والوطنية والديمقراطية والعدالة والحرية، تأسست دولة الإيمان وحكومة القرآن، يعلوها فقيه ينوب عن الإمام الغائب، ومن ثم ينوب عن حضرة سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام، هذا الفقيه هو المرشد الأعلى والقائد الأعظم للدولة له صلاحيات وسلطات واسعة مطلقة، يحسده عليها كل طغاة الشرق قدماء ومعاصرين، وكل من سواه من مؤسسات، بما في ذلك رئيس الجمهورية ومجلس الشورى والسلطة القضائية والحكومة والجيش والإعلام والحرس الثوري، كل ذلك ليس أكثر من أدوات في يده. تماماً مثلما آلت إليه أوضاع مصر مع الجمهورية الجديدة التي ظنت نفسها حدثاً فريداً في تاريخ مصر قائماً بذاته، ومن ذاته ولأجل ذاته، ظنت نفسها حدثاً قدرياً ولد مكتملاً من غير أب ولا أم، كررت غلطة الجمهورية الإسلامية التي اعتبرت نفسها لحظة ميلاد مستقل لتاريخ ثوري جديد، وما قبلها ليس أكثر من عثرات على طريق شارد لا غاية لها ولا وجهة له ولا مقصد له، الجمهورية الإسلامية لم تعتبر نفسها محطة ضمن محطات النضال الثوري الإيراني، لكن اعتبرت نفسها التأسيس الصحيح والوحيد كما التعبير الشرعي الوحيد عن أشواق الشعب ومطامحه، كذلك الجمهورية الجديدة في مصر 2014 م، لم تعتبر نفسها محطة من محطات نضال المصريين على مدى يقرب مائة وخمسين عاماً، من ثورة العرابيين بالإنابة عن المصريين في ميدان عابدين في وجه الخديوي والإنجليز 1881 م، حتى ثورة المصريين بالأصالة عن أنفسهم في ميدان التحرير 2011 م، ضد ستة عقود من ديكتاتورية ضباط دولة 23 يوليو المزمنة، وهي ديكتاتورية ذات صفتين: الأولى أنها ديكتاتورية نصف عسكرية نصف مدنية من عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك. الثانية: أنها ديكتاتورية- مثل ديكتاتوريات إيران- استأصلت جذور المعارضة المدنية الحقيقية بكل تياراتها أو أضعفتها إلى حد الإنهاك والاستهلاك والاستنزاف، فلم يتبق غير المعارضة الدينية التي تتكيف مع العمل تحت الأرض، حتى تتشقق عنها الأرض في الوقت المناسب؛ فتخرج سراعاً إلى العلن. كان التطور الطبيعي هو أن تأخذ الجمهورية الجديدة مصر في طريق دولة مدنية كاملة، لكنها شقت الطريق المعاكس تماماً، وهو دولة عسكرية كاملة، تماماً مثلما فعلت الجمهورية الإسلامية في إيران التي أخذت إيران في طريق دولة دينية كاملة، وكان العدل هو دولة ديمقراطية تراعى حرمات الدين، ولا تفتئت على المقدسات، دولة مدنية تحمي كل الحريات بما فيها حريات العقيدة والديانة والعبادة. كلتاهما الجمهورية الإسلامية في إيران والجمهورية الجديدة في مصر أحمال غير طبيعية خارج أرحام التاريخ، كلتاهما مسارات تقف أو تتحرك على الجانب الخطأ من التاريخ، لا هما جزء من المستقبل، ولا هما تصويب للماضي، ولا هما قيمة عملية مضافة لرصيد الحاضر، كلتاهما عبء على التاريخ، وعبء على نفسها وعبء على شعبها، كلتاهما ترهق نفسها، وترهق شعبها دون مبرر إلا اختيار المسار الخطأ من مسارات التاريخ.

دستور الجمهورية الجديدة 2014 م، حتى بعد تعديله 2019 دستور- نظرياَ وحرفياً وورقياً- ينتمي لحضارة العالم الأول، لكن الممارسة العملية للجمهورية الجديدة تنطلق على سجيتها، وتلقي الدستور وراء ظهرها.

دستور الجمهورية الإسلامية في إيران 1979م، نسي أو تناسى أن هذا الشعب العظيم دخل تحت عباءة الإسلام والإيمان والقرآن بعد سنوات قليلة جداً من وفاة حضرة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه الفتح الإسلامي مبكراً جداً مع القادسية 14 هجرية 635 م، ثم نهاوند 20 هجرية 641 م، وكان- بحضارته السابقة على الإسلام- من أوفر الشعوب وأسخاها عطاءً في بناء حضارة الإسلام، تناسى الدستور ذلك كله، وبدل أن يقوم في جوهره على حماية الحريات والعدالة وحق الشعب في اختيار الحكام، وعزلهم وحقه في موارد بلاده وحقه في التعبير عن نفسه، ذهب الدستور ليرتكز على محور واحد، هو حكومة القرآن كما ورد في المادة الأولى، ثم الإيمان كما ورد في المادة الثانية. 

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.