في صيف (١٩٥١)، جرت مواجهات وصدامات في الريف المصري مهدت لإطاحة النظام الملكي بكل مقوماته.

تحت وطأة ما حدث في قريته من عصيان غاضب لفلاحين مضطهدين، أعقبه تنكيل مفرط من كبار ملاك الأراضي كتب “نجيب سرور” واحدة من أشهر قصائده: “في البدء كان الجوع في بهوت”.

استبيحت بهوت على نحو غير متخيل، ففلاحوها لا يستحقون، أن يوصفوا بالبشر، حسبما ورد في مجلة “المصور” على لسان أحد كبار ملاك الأراضي.

بقوة الغضب أحرق الفلاحون أحد قصورهم، وانتقلت نذر النار- لأسباب مماثلة- إلى مناطق أخرى في الريف المصري.

في صيف نفس العام، جرت اعتقالات لفلاحين في “كفور نجم” بمحافظة الشرقية، امتنعوا عن سداد إيجار الأرض المملوكة للأمير “محمد علي” ولى العهد وقتها قبل ميلاد نجل “فاروق” الأمير “أحمد فؤاد”.

وضع فلاحون على خوازيق، واضطر آخرون- تحت قهر القوة- إلى ارتداء ملابس نساء.

لخصت رواية “الأرض” لـ “عبد الرحمن الشرقاوي” الأوضاع التي كان عليها الفلاحون في سنوات ما قبل الإصلاح الزراعي.

تكتسب “الأرض” قيمتها من صدقها الفني والإنساني، تعبيرا عن أزمة الفلاحين المصريين، وأبطالها من دم ولحم ومشاعر لبشر، يعانون القهر.

“يموتوا لنا الأرض من العطش.. ياخدوا منا نص دور ليه.. ياخدوا منا خمسة أيام بريهم.. ليه.. ونروى الأرض إزاي”!.

كانت تلك صرخة ألم وقهر واحتجاج لبطل الرواية “محمد أبو سويلم”.

كتبت القرية عرائض، تشتكي محنتها، وكان الثمن تنكيلا.

“كانت القرية كلها تعرف ما حدث للرجال، وكيف أكرهوا على شرب بول الخيل، وكيف حلقت شواربهم، وكيف هوت السياط على الوجوه والأبدان، وكيف كانوا يؤمرون بالجلوس على الخوازيق.. وكيف كان الواحد منهم يُضرب ويُضرب إلى أن يفقد الوعي.. ولا يبرح بعد هذا يضرب إلى أن يصيح إنه امرأة”.

الصورة المزعجة تشبه بعض ما حدث في بهوت وكفور نجم وقرى مصرية أخرى في السنة التي استبقت ثورة “يوليو” مباشرة.

كان من بين مبادئ “يوليو” الستة القضاء على الإقطاع، وقد جاء وقت الالتزام، بما تعهدت به، قبل أن تصل إلى السلطة.

لم تطرأ فكرة تحديد الملكية الزراعية على ثوار “يوليو” من فراغ، فقد سبقتها دعوات، أحبطت في أربعينيات القرن الماضي لرجال مثل “محمد خطاب”، و”ميريت غالي” و”إبراهيم شكري”، وهم ينتمون-  بالمفارقة- إلى طبقة كبار ملاك الأراضي.

“كان الهدف الفوري للإصلاح الزراعي توجيه ضربة قوية لطبقة كبار ملاك الأراضي وعناصر الارستقراطية الزراعية، التي سيطرت على مراكز السلطة في العهد الملكي.. وكان الهدف الأبعد تحطيم العوائق الأساسية أمام تطوير علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة في الريف المصري، وتصفية العلاقات شبه الإقطاعية السائدة، التي تحجب عملية تحرير قوى الإنتاج في الريف المصري”.

يكاد لا يختلف أحد من الباحثين الثقات مع ما أورده الدكتور “محمود عبد الفضيل”، عن هدفي الإصلاح الزراعي في دراسته الرائدة “عن تطور المسألة الزراعية في مصر”، التي شاركه فيها فريق بحثي بجامعة “كامبريدج”.

وزع نحو مليون فدان على صغار الفلاحين، وتوسعت قاعدة الملكية الصغيرة، وتحسنت الأحوال الاجتماعية والمعيشية لنحو (٣٤٢) ألف أسرة بصورة كبيرة.

كانت تلك ثورة بأي معيار وقياس.

“أعطيت الأولوية في توزيع الأرض للمستأجرين السابقين للأرض والعمال الزراعيين الدائمين والفلاحين، الذين يعولون أسر كبيرة العدد والأفقر من بين سكان القرى التي تقع في زمامها الأرض”.

لاحظ الدكتور “عبد الفضيل” أن المعدمين، أو ما يطلق عليهم “عمال التراحيل”، لم يدخلوا في تلك الأولويات، لكن أحوالهم تحسنت بازدياد فرص العمالة، والتوسع في مشروعات الأشغال العامة بالستينيات.

لم تكن هناك إحصاءات مدققة لأعدادهم، لكنه رجح بما توافر لدراسته من بيانات، أنهم في حدود (٤٤) ألف أسرة عام (١٩٥٠).

بعد ثماني سنوات من قانون الإصلاح الزراعي الأول وقبل سنة واحدة من القانون الثاني، عكست رواية “الحرام” لـ “يوسف إدريس” (١٩٦٠) أحوال هؤلاء المعدمين.
أين الحرام؟

الحرام الأخلاقي أم الحرام الاجتماعي؟

من هو اللقيط؟

رضيع السفاح الذي أخمدت عاملة التراحيل الضحية أنفاسه؛ خشية الفضيحة، دون أن تقصد قتله.. أم المجتمع الغليظ الذي حكم عليها بالعمل في أسوأ الظروف، حتى لا يموت زوجها المريض وأولادها من الجوع؟

كان الإصلاح الزراعي بروحه وأهدافه مقدمة أوسع حراك اجتماعي، شهدته مصر في الستينيات، كما كان موضوعا لأول صدام بين الثورة الوليدة وحزب “الوفد”.

بتأكيدات قيادات عاصرت الحدث من داخل حزب “الوفد”، فإنه لم يتخذ قرارا برفض مشروع الإصلاح الزراعي.

هذا ما حدث، لكنه لا يمثل دعما أو تأييدا.

ربما كان الامتناع عن إعلان قرار تعبيرا عن خشية؛ ردات فعل الحكام الجدد.

حسب شهادة لـ “جمال عبد الناصر” أثناء أعمال المؤتمر الوطني للقوى الشعبية مطلع ستينيات القرن الماضي، فإنه التقى “فؤاد سراج الدين” أربع مرات من أجل؛ موضوع الإصلاح الزراعي، و”اجتمع الوفد مرة واثنتين وثلاثا وأربعا؛ لبحث ما طلبناه”.

كان الخلاف جذريا في زاوية النظر للمسألة الزراعية، فـ “الثورة تعتقد، أن تحديد الملكية وتوزيع الأرض على الفلاحين الوسيلة الوحيدة التي تحرر الفلاح الذي نشأ في الأرض عبدا في الأرض، وملكا لمالك الأرض”.

و”كان الوفد يرى أن الضرائب التصاعدية كفيلة بزيادة موارد الخزانة، دون حاجة إلى هذا القانون”.

“لم تكن مسألة أموال، تدخل الخزانة، بقدر ما كانت قضية كرامة الفلاح المصري التي أهينت لقرون”.

“كنا نفكر بعقلية، وهم يفكرون بعقلية أخرى”.

“كنا نريد للفلاح، أن يمتلك حتى يكون حرا، ويستطيع أن يقول أيوه، ويستطيع أن يقول لا”.

لم تكن القطيعة التي جرت محض صراع سياسي على السلطة، بقدر ما كانت تعبيرا عن صراع اجتماعي.

لم يكن ممكنا، أن تحيا مصر إلى الأبد في “الحرام الاجتماعي”.

هذا ما يجب أن نتذكره، فالقاعدة نفسها تنصرف إلى المستقبل المنظور.