عندما تأسست الحركة المدنية في 13 ديسمبر 2017، تفاءل الكثيرون خيراً بسبب؛ حال الأحزاب السياسية المصرية المتعثر منذ أمد، تارة بسبب الظروف التي تحيط بعمل تلك الأحزاب والناتجة عن حالة الطوارئ، وتدخل الذراع الأمنية في شؤونها، والنظام الانتخابي المهترء (القائمة المطلقة مع الفردي)، وغيابها عن الشارع، بسبب نزعة الاستقلال وعدم التحزب الشعبي بسبب القبضة الأمنية. وتارة أخرى، بسبب عجز العديد من الأحزاب عن السعي لكسب أرضية جماهيرية، وعدم إعمال غالبيتها لأية آلية ديمقراطية لصنع القرار داخلها، واختيار القيادات الحزبية، ناهيك عن هشاشة البنى التنظيمية في عديد الأحزاب القائمة، إضافة إلى ضعف الانتشار الجغرافي، وأزمات التمويل الطاحنة حتى بالنسبة للأحزاب العريقة التي عرف عنها تاريخيا التنظيم الجيد (التجمع) والتمويل الوفير (الوفد).

لكن مع الوقت ظهر أن مشكلات الائتلافات أو الجبهات الحزبية أصبحت هي الأخرى ليست حلا لدعم فاعلية النشاط الحزبي. صحيح أن الحركة المدنية الديمقراطية كسبت زخما قويا بعد ملاحقة بعض أفرادها وشبابها فور تأسيسها، إلا أن الخلافات بين أركانها أصبحت اليوم تعصف بها، حتى أنها كادت الآن بالنسبة للمواطن، أن تكون نسياً منسيا.

منذ أيام قليلة وتحديداً في 29 يوليو الماضي، اجتمعت الحركة واختارت منسقا عاما جديدًا لها، وقامت يوم 4 أغسطس الحالي بالرد على بيان حكومة مدبولي، المطروح على مجلس النواب يوم 8 يوليو الماضي، وكل تلك الأمور تتسم بالجدية والتواجد على الساحة والعمل الجماعي بين مكونات الحركة المختلفة، وعودة لانتعاش البنى التنظيمية لها، ما جعل هناك قدرا كبيرا من التفاؤل بعد غياب الحركة عن الساحة. لكن مقابل ذلك كان هناك نوع من الانتكاسات التي شكلت عودة للوراء، إلى الحد الذي شكل كل ما سبق من نشاط مجرد محاولة، لإثبات البقاء سواء بين الناس، أو بين مكونات الحركة نفسها.

واحد من أبرز الأمور التي لم تعها الحركة، وسببت لها ولا تزال الكثير من المشكلات، هي أنها تضم أطيافا كثيرة من التباينات الفكرية. كثير من الجبهات أو التحالفات، قامت دون أن تنفض لمجرد علم ووعي أركانها بطبيعة وهدف التحالف، وبسبب عدم الخوض في التفاصيل والإجراءات المتفرعة من كل موقف، ولا غبار أن ينفض التحالف بمجرد، أن يؤتي ثماره (اتفاق الوفد والإخوان المسلمين الانتخابي عام 1984). لكن أن تغوص الحركة في التفاصيل، هنا يبدأ التباين في المواقف والتشرذم بين أركانها.

واحد من أبرز الأمور التي أظهرت فشل الحركة في مواجهة السلطة، هو عدم التوافق على مرشح رئاسي في انتخابات الرئاسة 23/2024. وزاد الطين بله عدم اتفاقها، على أن تختلف في هذا الشأن، ما جعل الثقة التي سعت الحركة، أن تبنيها في الفترة الماضية محل شك كبير، لأن عدم الاتفاق أظهر الأنا الواسعة والفجوة بين مكوناتها. جدير بالذكر، أن الموقف من انتخابات الرئاسة؛ أدى إلى تجميد بقاء كل من حزب العدل والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي في الحركة المدنية، دون أن يعلنا الإنسحاب الرسمي منها، حتى اليوم.  

بطبيعة الحال، سالت في الدروب قبل وبعد هذا الحدث مياه خلافات عديدة، جعلت من تماسك الحركة أيضاً محل شك، من ذلك على سبيل المثال النقد الذاتي للحركة من داخل أطرافها. هنا يبرز موقف الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي تحدث، عن أن الحركة انتهى دورها، وأن كل عمل ائتلافي له بداية ونهاية. هذا الموقف على صحته من حيث مبدأ الأعمال الائتلافية، إلا إن عدم التوافق عليه، يبدو هو المشكلة التي تظهر عمق الخلافات الداخلية بالحركة.

هناك أيضا مسألة الحوار الوطني والموقف منه، في هذا المضمار من المهم الإشارة، إلى أن هذا الحوار أصبح من أكثر الأمور محل خلاف شديد بين مكونات الحركة، فبعض أعضاء الحركة يبغون البقاء في الحوار، وبعضهم يبغون الخروج الفوري منه، وبعضهم الآخر يرى أن تجميد مشاركة الحركة المدنية في مجلس أمناء الحوار، وكذلك المشاركة في جلساته المتخصصة، يمكن أن يكون مخرجاً مناسبا، يرضي جميع الأطراف. وحتى بالنسبة لهذا الموقف الوسط، لم تنجح الحركة في فرضه وتأكيده على الأرض، حيث أبقت- هي أو بعض مكوناتها- الخيار لكل ممثل من الممثلين في مجلس أمناء الحوار، ليفعل ما يريد، وهو أيضا أمر، قد يعتبره البعض قرارا ديمقراطيا رشيدا، ويعتبره البعض الآخر دالاً على الترهل وعدم التماسك التنظيمي وعدم القدرة على الاتفاق بين تنظيمات الحركة المتشعبة.

في بيان صادر عن الحركة في فبراير الماضي، دعا إلى التظاهر دعما للموقف الفلسطيني من العدوان الصهيوني على غزة، برز الخلاف أيضا بين مكونات الحركة– خاصة الأحزاب اليسارية فيها- حول كل من فحوى البيان، وكذلك حديث أحد رؤساء الأحزاب المشاركة في الحركة لصحيفة صهيونية، وقبل ذلك انشقاق بعض قيادات أحد أحزاب الحركة المدنية وتأسيس ما سمى بـ “كتلة حوار” في مايو 2023، ولقاء قيادي بارز بالحركة بالرئيس السوري بشار الأسد في أغسطس 2023، وهو الرئيس الذي يوصم من قبل بعض قيادات الحركة– حزب الدستور تحديدًا- بكونه دكتاتورا دمر شعبه واستباح دماءه. كما كان هناك خلاف كبير أسفر عن تلاسن، بسبب الخلاف الذي نجم عن النزاع بين هشام قاسم وكمال أبو عيطة، ما أسفر عن سجن الأول بضعة أشهر… إلخ.

لا شك عند كثيرين، أن سياسات السلطة أفرخت عديد الخلافات بين مكونات الحركة، وساهمت في إحراج الحمائم منهم أمام الصقور، ما جعلت الحركة في حال تشرذم. أبرز الأمور التي وقعت في هذا الإطار، موقف السلطة الخشن من المعارضة السلمية الداعية للتظاهر، أو التعبير بأشكال غير عنيفة عن الاحتجاج على سياستها. هنا تبرز إجراءات القبض والاعتقال بأشكال وصور وطرق، بدت من الماضي الغابر، للعديد من الشباب وشيوخ الحركة المدنية. فما يلبث رئيس الدولة، أن يفرج عن بعض المسجونين أو يطلق النائب العام سراح بعض المحبوسين احتياطيا، حتى يتم القبض على آخرين، ما يجعل المدافعين عن استمرار بقاء الخيوط المعدودة قائمة بين السلطة والمعارضة المدنية، ومنها الحوار الوطني، لا مجال لتماسكها.

ما يزيد الأمور سوءا– فوق العصى- هو استخدام جزرة، تلقي بها السلطة لبعض أطراف الحركة، فتزداد الأمور اشتعالا بين مكوناتها. بالطبع الانتخابات البرلمانية على الأبواب، ورغبة البعض في التمثيل في البرلمان على قوائم حزب السلطة المستتر، مستقبل وطن، جاهزة. إعداد القوائم المطلقة المضمون اختيارها كأعضاء في مجلس النواب- وفق هذا النظام الشائن والمعيب- هو ملاذ بعض قيادات الأحزاب، ومنها الحركة المدنية، للتمثيل في المؤسسة التشريعية المختل توازنها تاريخيا أمام السلطة التنفيذية. هنا يبقى السؤال: ماذا لو اتفقت الحركة على امتناعها عن قبول جزرة السلطة عبر مستقبل وطن، والاتفاق على المشاركة فيما بينها في الانتخابات أيا كان نظامها الانتخابي؟!!

إن ما هو أجدى للحركة المدنية في هذا الوقت، أن تقوم من جديد بالجلوس، فيما بينها لوضع النقاط على الحروف، بغية تأكيد أهدافها الرئيسة، ووضع أسس لما يمكن أن يكون محل اتفاق، أو محل اختلاف مقبول بين مكوناتها. هنا يمكن الحديث عن أمل في بقاء الحركة. هنا من المهم الإشارة لبيان رئيس حزب الإصلاح والتنمية في11 أغسطس الماضي، والداعي إلى “ترك الحرية الكاملة للأحزاب أعضاء الحركة في اختيار وتقدير، ما هو مناسب لها لتحقيق أهدافها”، وهو ما فسر، على أنه مقدمة للتنسيق مع أية قوى خارج الحركة المدنية في الانتخابات البرلمانية القادمة. جدير بالذكر أن ائتلاف القائمة الوطنية من أجل مصر الذي خاض انتخابات 2020، البرلمانية تحت قيادة حزب السلطة “مستقبل وطن” ضم كل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي والعدل والإصلاح والتنمية، وكلها أحزاب أعضاء بالحركة المدنية، وترفض القائمة المطلقة المعيبة كأسلوب انتخابي دولى!!

على أية حال، ستبرهن الأيام القادمة إلى أي حد ستستطيع الحركة، أن تصمد أمام العواصف القادمة، سواء فيما يرتبط بالحوار الوطني أو الانتخابات أو غيرها من مواقف، وسط أنواء السلطة التي تتلاطم على سطحها أعضاء الحركة.