هناك وهم شائع لدى قطاعات عريضة من النخبة المصرية، أن مزيدا من تفاقم الأزمة الاقتصادية، من شأنه أن يدفع إلى مزيد من الانفتاح السياسي، أو يؤدي إلى التغيير. ساد هذا الوهم لدى الإخوان ومناصريهم لفترة، ولا أدري إن كان لا يزال شائعا أم لا. تردد هذا أيضا في المراحل التحضيرية التي سبقت الحوار الوطني. اعتبر البعض، أن الدعوة إليه جاءت على خلفية تفاقم الأزمة الاقتصادية التي بدأت، تظهر تداعياتها بعد الحرب الأوكرانية، وانسحاب مليارات الأموال الساخنة من النظام المالي المصري.
يجادل هذا المقال، بأن الأزمة الاقتصادية في مصر لم تتوفر لها الشروط، ولا المتطلبات الأخرى التي تدفع إلى هذا الانفتاح السياسي، بل يزعم كاتب هذا المقال، أن مصر في السنوات القليلة القادمة، ستكون رهينة المحبسين: الأزمة الاقتصادية- التي ستزداد وطأتها على جموع المصريين، ومزيد من التحكم والسيطرة، الممزوج بالقمع الذي ستتسع حلقاته، وتزداد كثافته، ولن يكون أحد محصنا منه.
دروس خمسة في التحول الديموقراطي:
١- تماسك ومتانة شبكات المحسوبية: عندما تظل شبكات المحسوبية القائمة قوية ومتماسكة، فإن انشقاق النخبة يتضاءل، وبالتالي، يقل احتمال انهيار الاستبداد.
تؤثر طبيعة ومتانة شبكات المحسوبية القائمة على احتمالية انشقاق النخبة، (وبالتالي احتمالية انهيار الاستبداد في المقام الأول)، وكذلك على جودة الديمقراطية (وبالتالي احتمال استقرار الديمقراطية على المدى الطويل).
حيثما تظل هذه الشبكات سليمة؛ فقد تختار النخب السياسية والاقتصادية عدم الانضمام إلى المعارضة.
في مصر، رحبت- أو على أقل تقدير غضت الطرف- بعض مؤسسات الدولة وغيرها من مجموعات الأعمال ذات التوجه المحلي- التي كانت مهددة بسياسات الخصخصة المرتبطة بجمال مبارك وحلفائه- بالإطاحة بمبارك. وفي تونس، احتكرت عائلتا ابن علي والطرابلسي على نحو متزايد الفرص الاقتصادية الأكثر ربحية، الأمر الذي أدى إلى تنفير قسم كبير من مجتمع الأعمال، الذي لم يدافع عن ابن علي أثناء الثورة، بل ورحب برحيله. علاوة على ذلك، لم يكن الجيش التونسي مندمجا في شبكات المحسوبية التابعة لابن علي، مما سهلّ له الانشقاق عن النظام الاستبدادي.
٢- مدى توفر الموارد: عندما يواجه الحكام المستبدون موارد متضائلة تحول، دون الحفاظ على تماسك النخب السياسية والاقتصادية الرئيسية التي تتمتع بالمحسوبية؛ فإن ذلك قد يدفع إلى انشقاقات نخبوية في بنية النظام.
تحتاج شبكات المحسوبية- في نهاية المطاف- إلى موارد كافية لاستمرارها. عندما يتمكن أصحاب المناصب الاستبدادية من الوصول إلى الموارد؛ فإنهم يستطيعون تقويض جاذبية الحركات المؤيدة للديموقراطية في المقام الأول.
البلدان التي تتمتع بثروة الموارد الطبيعية أكثر قدرة على استخدام المحسوبية؛ من أجل ضمان ولاء- أو على الأقل دعم- ناخبيها الرئيسيين، وحتى الجمهور الأوسع، كما تشهد حالة أذربيجان، وممالك الخليج العربي. في البلدان الأقل ثراء، يستطيع الحكام استخدام الاستقطاب بفعالية، وخاصة عندما تعتمد النخب على رعاية الدولة، من أجل بقائها وإثرائها. في ماليزيا-على سبيل المثال- تماسك التحالف الاستبدادي في مواجهة أزمة اقتصادية كبرى، آواخر تسعينيات القرن الماضي، لأن مكوناته الأساسية كانت متجذرة في الاقتصاد المحلي، وتعتمد على الإعانات والمزايا الحكومية.
٣- تجاوز الاستقطابات: لايستطيع القادة الأفراد، أن يحققوا الانسجام والتوافق في الساحة السياسية بمفردهم. تتوقف قدرتهم على: تشكيل تحالفات تكون بمثابة جسور بين أصحاب المصلحة الرئيسيين على التضاريس السياسيةالموجودة مسبقاً (والمتطورة).
تشير تجارب العديد من دول جنوب شرق آسيا والاتحاد السوفييتي، وكذلك دول الانتفاضات العربية، إلى أن الاستقطاب الأيديولوجي الشديد يحول دون تعاون النخبة. إذا لم يكن هناك توافق أيديولوجي؛ فإن مجموعة مشتركة من الأهداف السياسية- على الأقل- تشكل ضرورة أساسية لترسيخ الديمقراطية.
٤- ضرورة تكوين أرضيات سياسية وسطية: إن التجربة البرتغالية تؤكد أهمية دور القيادة في إقناع المجموعات المتنوعة عبر الطيف السياسي من ضرورة التعاون، فبدون وجود تأييد لأرضية سياسية وسطية قادرة على اكتساب ثقة واسعة النطاق؛ سيستمر المتطرفون في السيطرة على الساحة السياسية، وسيستمر الاستبداد.
٥- إن صياغة نظام سياسي واقتصادي أكثر شمولا أمر بالغ الصعوبة، ويرجع ذلك- إلى حد كبير- إلى صعوبة إزاحة التحالفات الاستبدادية، حتى بعد حدوث التحولات الديموقراطية ظاهريا.
عوامل أربعة للتحكم والسيطرة:
أولا: المصريون خطر وتهديد للدولة: قامت بنية نظام يوليو ٢٠١٣، على استبعاد المصريين -بشكل متصاعد- من الاندماج في بنية الثروة والسلطة، وإذا جرى استدعاؤهم؛ فيتم على أرضية إثارة مخاوفهم من انزلاق الأوضاع إلى حالة الفوضى وعدم الاستقرار، وليس وفق منطق المشاركة.
أتى الاستبعاد الحديث للمصريين؛ (لأن الإقصاء سمة تاريخية لبناء الدولة المصرية الحديثة إلا باستثناءات قليلة) من الثروة من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، بما سمح لها بامتلاك تدفقات هائلة، أتت من موارد متعددة في مقدمتها الديون الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة على مصادر الاقتصاد الريعي في مصر كافة، من أراض ومناجم ومحاجر ومختلف الثروات الطبيعية.
قادت مؤسسات الدولة الأساسية هذا التوجه بمفردها، أو من خلال مشاركة منتقاة للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي، بما سمح بتكوين شبكات ضيقة من المحسوبية.
أدت لحظة تأسيس النظام الذي كان في مواجهة مع يناير وتداعياتها، إلى ما أطلق عليه أحد الباحثين “رهاب الجماهير”، كما تطَلب استعادة هيبة الدولة التي انتهكت في يناير، وتحديث بناها الإدارية والقانونية مزيدا من السيطرة والتحكم في المجتمع المصري الذي يتسم -من وجهة نظر النظام الجديد- بالفوضى والعشوائية.
الاضطراب الذي واجهته دولة يوليو ٢٠١٣، لم يكن يتعلق بيناير فقط؛ ولكن أيضا بالفوضى والسيولة التي تتسم بها حركة المجتمع المصري- كما يظهر في البناء العشوائي ومخالفاته، كما يخص اصحاب النفوذ- كما بدي في الاستيلاء على أراضي الدولة، أو ما يتعلق بالاقتصاد غير الرسمي… لذا كانت ضرورة الضبط والسيطرة على ذلك جميعا- خاصة إذا كانت وراءه قوى اجتماعية وسياسية متنافسة ومصطرعة.
تحكم في السيطرة والتحكم دوافع أربعة: ١-استعادة هيبة الدولة بعد يناير، ٢- وبناء وتمتين تحالف حكم جديد، ٣-وتحسين الأداء الإداري بالقفز على مشاكل البيروقراطية ٤- وتحديث بنية الدولة/ أشباه الدولة. كان التنظيم الحضري ومحاولات ضم الاقتصاد غير الرسمي إلى الرسمي من أبرز مظاهر هذه التوجهات.
ثانيا: بنية متسعة للتحكم والسيطرة، تمتد من عسكرة البيروقراطية المصرية، إلى هياكل من القمع، تتمثل في جعل تكاليف المعارضة باهظة- بغض النظر عن فعل المعارضة ذاته، وترسانة من القوانين، لا تقتصر على المجال السياسي فقط، بل تشمل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية كافة. يضاف إلى ذلك، نظم متقدمة من الرقابة مستندة إلى قواعد بيانات ومعلومات تفصيلية، تسمح بمراقبة حركة المجتمع.
سمحت هذه البنية المتسعة من التحكم والسيطرة [انظر تفصيلا لذلك في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
بتعزيز قاعدة النظام داخل مؤسسات الدولة الأساسية، وتوسيع دائرتها بضم مكونات أخرى إليها داخل البيروقراطية المصرية، أما هدف هذه البنية المتكاملة، فهو إحكام السيطرة على حركة المصريين بشكل يومي، لا في المجال السياسي فقط.
لكن يظل الهدف النهائي لهذا كله- كما جرى إبان الحقبة الاستعمارية- هو صياغة اقتصاد سياسي، يخدم تحالف الحكم وشبكات المحسوبية المحلية والإقليمية والدولية.
تمكن النظام من حشد الدعم الجماهيري، ليس فقط من قاعدته الشعبية، بل وأيضاً من قطاعات كبيرة من السكان الذين وقعوا فريسة للخوف من الفوضى الاجتماعية. استخدم في سبيل ذلك عددا من الميكانيزمات مثل، خطاب وطني يعلي من شأن الدولة، وخلق عدو داخلي يمثل تهديدا دائما لا ينتهي (الإخوان)، وسحب صفة الوطنية عن المعارضة- أية معارضة… لكن شرعية هذا الخطاب تآكلت إلى حد كبير تحت وطأة تفاقم الأزمة الاقتصادية التي اتسعت دوائرها؛ لتشمل مزيدا من الفئات الاجتماعية.
لكن السؤال الذي يستحق المتابعة هل يجعل هذا كله الدولة المصرية في مواجهة المصريين؟ وما تأثير ذلك على الدولة والمجتمع؟
ثالثا: تصحير السياسة: قامت بنية النظام على ازدراء السياسة، والقضاء على المجال العام ومؤسساته التي تسمح بإدارة المظالم الاجتماعية والشخصية والمحلية بشكل سلمي آمن.
إن غياب حزب حاكم جماهيري، على غرار الحزب الوطني الديمقراطي لمبارك أو الاتحاد الاشتراكي العربي لعبد الناصر، يقلل بشكل كبير من قدرة النظام على تعبئة المواطنين. إن عدم قدرة النظام على التفاوض مع معارضة منظمة، ومعتدلة في أوقات الاضطرابات الاجتماعية الجماعية، يجعل القمع الجماعي الخيار السياسي الوحيد الممكن.
عندما تفاوض النظام مع الاخوان في ٢٠١١ كانت هناك قوة شعبية لها حضور جماهيري منظم، وعندما تحالف مع جبهة الإنقاذ ٢٠١٣ كان لها حضور شعبي ممتد.
إذا اندلعت انتفاضة شعبية جماهيرية، وهو المتوقع تحت وطأة التضخم [الانتفاضات الابن البار للتضخم]، التي غالبا ما ستكون جزئية ومحلية ومؤقتة- كما جرى في ٢٠١٩ و٢٠٢٠، فلن يكون أمام النظام خيار سياسي قابل للتطبيق سوى قمعها، وذلك لأنه- ببساطة- لا توجد معارضة منظمة يمكن التفاوض معها.
يرى النظام نفسه حامياً للدولة ضد قوى الفوضى، ومن ثم فهو لا يحتاج إلى السياسة، لكن تراجع التعبئة الجماهيرية التي تمتع بها في مراحله الأولى، والأزمة الاقتصادية- التي هي من طبيعة سياسية أساسا، [باعتبار أن جوهرها يتعلق بأولويات الإنفاق العام، واتجاهات السياسات العامة]، يجعله في أمس الحاجة للموارد السياسية، وهو ما لا يتوفر له الآن، لا على مستوى الإدراك، ولا من جهة توفر الموارد السياسية، لذا فإن التعامل معها سيكون بمزيد من فائض القمع الذي تمت مراكمته على مدى السنوات العشر الماضية. بلغ هذا الفائض مستويات قياسية بعد إضافة العنف غير الرسمي، الذي يمكن أن تمارسه بعض الكيانات التي أضفي عليها قدرا من الرسمية مثل، نخنوخ واتحاد القبائل العربية.
غياب الموارد السياسية أو بالأحرى تبديدها المستمر، يقلل من قدرة النظام على المناورة وإمكانياته على امتصاص الصدمات الشعبية. والمحصلة ضعف مرونة النظام، وتآكل قدرته على الاستيعاب.
رابعا: استمرار الرهان على البعد الخارجي في المساندة والتأييد: راهن النظام منذ البداية على المساندة والدعم الإقليمي من بعض دول الخليج أساسا. على ما يبدو، فإن هذا الرهان لا يزال حتى الآن- هو الاستراتيجية الأساسية له، ساعده على ذلك عدة أمور: الطلب على الاستقرار في المنطقة، والخوف من انزلاق الأوضاع في مصر إلى اضطرابات اجتماعية متسعة- حيث هي أكبر من أن تفشل، واستمرار الإجماع على عدم عودة الحركات السياسية الإسلامية، وخوف أوروبا من الهجرة غير المشروعة، والاضطرابات على حدودها الجنوبية، وإعادة صياغة علاقة الولايات المتحدة والصين وروسيا بالمنطقة مع تصاعد التنافس الدولي بينهم، وغياب اليقين الاستراتيجي، وأخيرا وليس آخرا؛ تداعيات حرب غزة على الإقليم.
يوفر البعد الخارجي موارد، تسمح بتمتين تحالف الحكم القائم، مع إمكانية توسعته باستمرار، لكن الارتهان للبعد الخارجي، يجعلك عرضة لتقلباته، كما يحمل في نفس الوقت قدرة على إبراز التنافس بين شبكات المحسوبية التي تكمن مرتكزات فاعليتها في أماكن متعددة. لم يكن مشروع الرأسمالية- تاريخيا- ذو بعد محلي، وهو لا يزال يحمل هذه الصفة، لذا فإنه الآن يعد جزءا من إعادة هيكلة المنطقة، وموقعها في الاقتصاد الدولي.
نحن بصدد طبعة نيو ليبرالية شرسة، تقودها بعض مؤسسات الدولة متحالفة مع الخارج، وقد تخلت فيها عن تمثيل الفئات الاجتماعية التي كانت تعبر عنها تاريخيا-كما كتبت في مقالي السابق.
وتتخفف عن دور الدولة الاجتماعي بإلقاء فئات اجتماعية عريضة وراء ظهرها، وترفض السماح بأي مجال سياسي، يعبر عن هذه المظالم الاجتماعية… فهل نتوقع بعد كل هذا اصلاحا؟ أم هو الإصلاح المستحيل/ العصي في مصر؟