لن يصلح التعليم بتوزيع التابليت على الطلاب، كما فعل وزير التعليم الأسبق، ولا بأخذ بصمة التلاميذ ومراقبة الفصول، كما قرر وزير التعليم الحالي، إنما بإصلاح شامل في مناهج، ومنظومة التعليم، بعد دراسة حقيقية لمشكلاتها الحقيقية.

كما أن إلغاء بعض المواد من مقرر الثانوية العامة أدبي مثل الفلسفة، “أم العلوم” وعلم النفس، تعتبر كارثة حقيقية، ونموذج لا يمكن أن نراه في أي بلد آخر في العالم، خاصة، إن صاحبه إخراج اللغة الثانية من المجموع، في وقت يسعى العالم كله لدفع تلاميذه لتعلم لغة ثانية وثالثة، وأيضا شطب الجيولوجيا التي كانت أحد المواد الأساسية التي تفتح ذهن الطلاب لآفاق واسعة فيها، تداخل بين العلوم الطبيعية وتاريخ الكون، وتطوره، وتعد من المواد الأساسية في كل بلاد الدنيا المتقدمة أو الراغبة في التقدم.

واللافت، أن قرار إلغاء اللغة الثانية من المجموع ينسحب فقط على التعليم الحكومي، ولم يمتد لطلاب المدارس الخاصة، وهو موقف طبقي، يميز بين الطلاب على أساس من يدفع، وليس على أساس التفوق والجدارة.

ولم تعبأ الوزارة بالنقص الفادح في أعداد المعلمين، ولم تعمل على مواجهته واهتمت بالإعلان عن عودة الامتحانات لتلاميذ الصف الثالث الابتدائي، واعتماد نظام التقييم على أساس مخرجات المواد الدراسية المطورة، في الصفوف الثالث- الرابع- الخامس- السادس الابتدائي من خلال امتحان نهاية الفصل ٦٠ درجة المهام الأدائية ١٠ درجات، وكراسة الواجب ٥ درجات، وكراسة الأنشطة ٥ درجات، والتقييم الأسبوعي ٥ درجات، والتقييم الشهري ١٠ درجات، والمواظبة والسلوك ٥ درجات.

ولنا أن نتصور كيف سيطبق هذا القرار شديد التعقيد في المدارس الحكومية في ظل نقص أعداد المعلمين، وأيضا في ظل أن تقييم الطالب على ضوء “أعمال السنة” عادة، ما يكون غير موضوعي وتحكمه المجاملات، وينال فيه الطالب الذي يأخذ دروسا خصوصية، الأرقام النهائية في أعمال السنة، وهو لن يكون حال الطالب غير القادر على أخذ الدروس الخصوصية.

والمؤكد أن التعليم الحكومي في مصر هو قلب العملية التعليمية، ومعيار النجاح والتقدم لأي بلد، يعاني من مشكلات عميقة، فاقمها أداء وزراء التعليم في السنوات العشرة الأخيرة، ووصلت لمرحلة الخطر مع قرارات الوزير الجديد.

مشكلة وزراء التعليم في مصر، أنهم لا يمتلكون أدوات حقيقية لتطوير المنظومة التعليمية، ولذا اعتادوا، أن يتركوا المشاكل الحقيقية التي تواجه العملية التعليمية بلا حلول، من نقص في أعداد المعلمين والمدارس، وتكدس الفصول ومشكلات مناهج التعليم، ويمسكون في البصمة، أو في إلغاء مواد، لا يجب أن تلغى والتمسك بأخرى تحتاج لتطوير.

الانهيار الذي أصاب التعليم الحكومي، جعل بعض خريجي ثانوي عام غير قادرين على كتابة جمل مفهومه باللغة العربية، وفي نفس الوقت، لا يتقنون أي لغات أجنبية، وكأن المجانية، أصبحت مرادف لـ “لا تعليم”، وانتقلت العملية التعليمية إلى “السناتر”، و المجاميع والدروس الخصوصية في مفارقة تبدو صادمة.

أجيال الستينيات، وحتى جيلي في الثمانينيات، يفتخر إنه كان خريج مدارس حكومية، وتعلم تعليما جيدا، وكان يتقن اللغة العربية، ويمشي حاله في اللغات الأجنبية، وجاء اليوم، وشهدت بنفسي خريجي ثانوي عام، يخطئون في العربي أخطاء، كان مستحيلا على طالب ابتدائي في سبعينيات القرن الماضي، أن يخطئ فيها.

لقد أراح الوزير الجديد دماغه من قضية تطوير المناهج، وقرر “إلغاء مناهج” مثل، الفلسفة أم العلوم من الشعبة التي يفترض أن تدرسها “بتبحر”، بجانب علم النفس والمنطق واللغة الثانية، وهي قرارات، تعكس حجم “الاستسهال”، وستضر أكبر ضرر بالعملية التعليمية.

وقد تواكب مع هذا التوجه حالة من الاستعلاء على العلوم الإنسانية، وراج خطاب يقول، إنها لن تفيد في سوق العمل، وجرى استخفاف بتعلم اللغات بصورة فجة وصادمة، حتى بدت الصورة، وكأن هناك موقفا من قيمة العلم في ذاتها، وليس فروع وتخصصات علمية معينة.

صحيح إن في كل بلاد الدنيا هناك من يتقن فقط تخصصه، ويوصف بالفني، أو التكنوقراط الجيد، أما من يقول تخصصي، وباقي التخصصات ليست مهمة، وينظر لها نظرة تسفيه واحتقار؛ فسيكون بالقطع فاشل في تخصصه.

ولذا علينا ألا نندهش، إنه في الوقت الذي قرر الوزير الجديد حذف تخصصات في القسم الأدبي تصاعد خطاب إعلامي، يقول إنه ليس مهما تقريبا كل فروع العلوم الإنسانية (التاريخ الجغرافيا الفلسفة المنطق علم النفس الاجتماع)، وتجاهل أن حصيلة أي عمل يقوم به متخصص، يرفض ويتعالى على العلوم الأخرى، سيكون سيئا وفاشلا.

فمن يبني الكباري والمحاور والمباني الجديدة، لو كان متخصصا ناجحا ومهنيا حقيقيا، لكان عرف إنه لا بد، أن يدرس البيئة المجتمعية المحيطة بالمنشآت التي يبنيها، فلا يبني أبراجا شاهقة مكان بيوت صغيرة، يسكن فيها الناس، لأنها قريبة من مكان عملهم، فالمهم هو “أنسنة” الأحياء، وتلبيتها لاحتياجات البشر، وليس طولها وعرضها وضخامتها، كما إنه لو كان متخصصا لدية حد أدنى من الانفتاح على العلوم الأخرى؛ لعرف إنه لا يجب أن  يهدم مقابر تاريخية، أو غير تاريخية؛ ليبني محورا سيوفر ٤ دقائق، وقال المتخصصون الحكوميون، إنه محور عديم الفائدة، ومع ذلك بدأوا في بنائه وهدم المقابر، ولو كنا استفدنا من الدراسات الإنسانية، ودرسنا الواقع الاجتماعي والثقافي في دمياط، قبل أن تبنى مدينة أثاث، تكلف مليارات الجنيهات، لا يذهب إليها أحد، لكنا وفرنا هذه الأموال المهدرة.

العلوم ليست جزرا منعزلة، والهندسة ليست منفصلة عن الاجتماع والتاريخ والجغرافيا، وأن تطوير التعليم لن يكون بإلغاء مواد أدبية، هي أحد مصادر قوة وتأثير العلوم الإنسانية على باقي العلوم، كما لا يجب أن نتصور، أننا سننجح في الطب (نصف عدد الأطباء المسجلين في نقابة الأطباء استقالوا وهاجروا) أو الهندسة أو العلوم والتكنولوجيا في الوقت الذي تعتبر الدولة العلوم الإنسانية عبئا، يستحق الإلغاء أو الفصل عن العلوم الطبيعية، فالنتيجة أننا سنقدم لسوق العمل طالبا مسخا، سيشارك في كل التشوهات التي نراها حولنا، لا أن يصلحها.