شكل الاتجاه المصري الأخير بعقد اتفاقات عسكرية مع كل من الصومال ونيجيريا متغيرا ملحوظا في الأداء الإقليمي المصري، ليس على الصعيد العسكري فقط، ولكن أيضا على الصعيد الدبلوماسي، إذ تتقارب حاليا كل من مصر وتركيا في زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الي أنقرة لتتويج اتجاهات تعاون بين البلدين لها طابع إقليمي، ولتتجاوز مرحلة من الاحتكاكات العنيفة، التي جرت خلال السنوات الماضية على خلفية رؤية وتقدير كل طرف لجماعة الإخوان المسلمين المصرية.
وقد يجوز التساؤل هنا، هل التحرك الإٍقليمي المصري هو الأول من نوعه؟ أم سبقته تحركات مماثلة، لم تأخذ حظها من التفعيل بسبب؛ البيئة الإقليمية والدولية في توقيتها، وطبيعة المشروعات الإقليمية المطروحة على الصعيدين الدولي وقتذاك، خصوصا في منطقتي حوض النيل والقرن الإفريقي، وكذلك في منطقة الساحل الإفريقي.
في هذا السياق، لا بد من التذكير بتحركات مصرية مماثلة على الصعيد العسكري، جرت تجاه كل من السودان وأوغندا وبوركينا فاسو خلال الخمس سنوات الماضية، بل أن القاهرة كانت قد بلورت مشروعات متكاملة للتعاون الإفريقي الإقليمي في منطقة الساحل عام ٢٠١٥، في اجتماع حضره ٢٦ وزير دفاع إفريقي بشرم الشيخ، وذلك لمواجهة استفحال الظاهرة الإرهابية ،ولكن تم إجهاض هذا الاتجاه من جانب باريس في تحالف جي ٥.
ويمكن القول أن الأداء المصري في هذا التوقيت قد جرت بلورته في إطار أزمة سد النهضة، وتصاعد التهديدات العسكرية للسودان من جانب إثيوبيا، وأيضا اتساع حجم الظاهرة الإرهابية المهددة للأمن القومي لمصري من القرن الإفريقي والحدود الغربية معا، إذ أن التنسيق بين تنظيم شباب المجاهدين في الصومال والحوثيين في اليمن، فضلا عن خلايا نائمة في السودان، بات محسوسا، بل ومشهودا أيضا.
حاليا، يمكن إضافة متغيرات جديدة للأداء المصري بشكل عام منها تصاعد التهديدات الأمنية من منطقتي جنوب باب المندب والبحر الأحمر، وكذلك انفتاح دولة السودان على سيناريو التفكيك بدرجة أكبر مما مضى، فضلا عن اتجاهات إثيوبيا؛ لتكون دولة مؤثرة عسكريا في البحر الأحمر انطلاقا من منطقة أرض الصومال، وهي قيمة مضافة لتحكمها الراهن في التدفقات المائية لكل من مصر والسودان، خصوصا في ضوء تصديق برلمان دولة جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي المعقودة عام ٢٠١٠، التي تعطي دول المنابع الحق في تنفيذ مشروعات مائية في دولها مؤثرة على تدفقات نهر النيل دون إخطار مسبق، حيث تمت فعليا الدعوة لاجتماع دول مبادرة حوض النيل لتفعيل هذه الاتفاقية.
في ضوء بيئة المهددات التي أشرنا اليها سالفا، ما هي بيئة الفرص لنجاح التحركات الإقليمية المصرية الراهنة؟ للإجابة على هذا السؤال نشير الي عدة أمور دولية وإقليمية منها أنه:
أن مستوى الصراع الدولي الراهن بين الشرق والغرب قد تصاعد، خصوصا في إفريقيا، وهو أمر يتيح مساحة حركة للدول متوسطة القوة على الصعيد الإقليمي لصيانة مصالحها وربما تنميتها، حيث تنشغل الإدارة الأمريكية راهنا بالحرب في أوكرانيا، وغزة، فضلا عن الانشغال الانتخابي الداخلي، وكلها أمور جعلت نقاط ارتكازها العسكري، تتراجع في إفريقيا، خصوصا في مناطق الساحل الإفريقي، وهو ما دفع قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا الجنرال مايكل لانجليه، للقاء اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي، مؤكدا على دعم الولايات المتحدة للاستقرار الليبي وداعيا إلى الحوار الداخلي، ومؤكدا على اهتمام الولايات المتحدة بالمجريات الأمنية الليبية.
على الصعيد غرب الحدود المصرية هناك فشل فرنسي واضح على الصعيدين السياسي والعسكري في إقليم الساحل الإفريقي، وهناك صراع دولي في هذه المنطقة بين روسيا وفرنسا على الصعيد العسكري عن طريق وكلاء من الشركات الأمنية، حيث يحتاج كلا البلدين لروافع إقليمية من دول متوسطة القوة كمصر والجزائر والمغرب، حيث سيتحدد مدى التنسيق بين هذه الدول- إن حدث- على الصعيد الدفاعي طبقا لاختيارات كل دولة في التحالف مع أي ظهير دولي.
على الصعيد الإقليمي الإفريقي هناك متغيران الأول، تراجع قدرات أديس أبابا على الصعيد الداخلي إزاء مناوئيها العسكريين من قوميات الأمهرة، وفئات من الأرومو، حيث تم مؤخرا الاستيلاء على مدينة المتمة، وغلق الحدود السودانية مع إثيوبيا لهذا السبب.
أما المتغير الثاني، فهو إعادة تقييم وزن إثيوبيا على الصعيد العالمي، من حيث مدى القدرة، على أن تقوم بدور الوكيل للمصالح الدولية، وتحقيق استقرار القرن الإفريقي في ضوء طموحاتها الإقليمية الضخمة، وذلك على الرغم من ضعفها الداخلي من جهة، ونتائج حرب التيجراي من ناحية ثانية، ومدى قدرة النظام السياسي الراهن على تحقيق مشروعه في تأسيس مركزية إثيوبية من ناحية ثالثة، إذ يتم حاليا تداول مقولات في الأروقة الدبلوماسية الغربية، أنه علينا أن ننقذ إثيوبيا من نفسها.
أما المتغير الثالث، فهو تحسن العلاقات بين القاهرة وأنقرة إلى حد بلورة صيغة شراكة عسكرية للدفاع عن الصومال ضد التغول الإثيوبي والتمدد الإرهابي، حيث أنه سبقت الاتفاقية العسكرية بين مصر والصومال اتفاقية مماثلة بين مقديشيو وأنقرة، وهو تطور يشير إلى أن الأداء المصري يتحرك بمفهوم تجنب الاستفزاز للقوى الإقليمية والدولية والتحرك في بيئة صديقة للأداء المصري.
أما على الصعيد الإقليمي العربي، فإن هناك تحديات أساسية أمام الاستراتيجيات الخليجية بشكل عام في منطقة القرن الإفريقي، تخضع حاليا لمراجعات تحت ضغط دولي من ناحية وإعادة تقييم داخلي في العواصم الخليجية، خصوصا في أبو ظبي، ذلك أن الاندفاع الاستثماري الخليجي في منطقة القرن الإفريقي، لم يسفر عن استقرار دوله، وبالتالي تحقيق مستوى آمن واستمرارية هذه الاستثمارات؛ لتحقق أهدافها الاقتصادية المتمثلة في الفجوة الغذائية في منطقة الخليج، وفتح مجالات الاستثمار بمواني البحر الأحمر، حيث اتسم الاستثمار السياسي والاقتصادي الخليجي بالتنافسية، ولم يجنح للتكامل أو التشبيك، كما أن جنوح الذهنية الخليجية نحو الفرص، خصوصا الاقتصادية دون تقدير المخاطر الجيو سياسية، يدفع حاليا بعض الدول في منطقة القرن الإفريقي نحو الانهيار والتفكيك كالحالتين الإثيوبية والسودانية.
وبطبيعة الحال، يبدو أن التحرك المصري إقليميا له دوافع داخلية أيضا، لا يمكن التجاوز عنها، ذلك أن الأمنين المائي والاقتصادي المصري يواجهان الخطر، وتحديات غير مسبوقة تاريخيا نتيجة؛ أزمة سد النهضة وتراجع عوائد قناة السويس، ومن ثم الاستجابة لمثل هذا التحديات، قد يكون مطلوبا بإلحاح على صعيد الرأي العام المصري من القوات المسلحة المصرية، خصوصا في ضوء استمرار الاستفزاز الإسرائيلي بالوجود في محور صلاح الدين (محور فيلادليفيا) والاتجاه الإسرائيلي؛ لإعادة احتلال غزة، وطبيعة التفاعلات السودانية الداخلية.
إجمالا، لا بد من رصد أن مصر تتحرك بحنكة كبيرة من مربع الكمون الاستراتيجي الذي بدأ تحت مظلة نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى مربع الفاعلية الإقليمية راهنا، وسوف يكون هذا المجهود على الصعيد الإفريقي له تداعياته الإيجابية الشاملة، والمأمول هنا أن يساهم المجهود المصري في خفض مستوى الصراعات الإقليمية، وكذلك في إعادة تفعيل النظام الإقليمي العربي على نحو يخدم كل دوله، ويزيد من قدراتها الشاملة، ولا يساهم في تفكيك وإضعاف وحداته الهشة، خصوصا في كل من سوريا وليبيا والسودان، وأيضا دون غياب للدفع المصري نحو بلورة دور عربي لحل القضية الفلسطينية بمعادلة الدولتين.