خلال الأسبوع الحالي، أصدرت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب بيانين ناريين، بحق كل من اعترض على تقرير اللجنة الفرعية المقدم بشأن وضع قانون جديد للإجراءات الجنائية، يفترض أنه يهدف لصون حقوق الإنسان والحريات العامة، في ضوء الاتفاقات الدولية والدستور ومخرجات الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي جاء بها الحوار الوطني.
البيانان اتسمت لغتهما بـ “الردح” الإعلامي، إن جاز التعبير، فهما بيانان خارج سياق ما هو متعارف عليه من تقاليد وأعراف برلمانية، تتسم باللباقة والحنكة في التعامل مع وجهات النظر المختلفة.
في البيانات التقليدية التي كانت تصدر عن لجان البرلمان في مصر، وغيره من البرلمانات المتمدينة في بلدان العالم، يأتي البيان، ويشرح فلسفة عمله، وطبيعة ما قام به، ويسرد وجهات النظر المختلفة باختصار شديد، ويؤكد أنه استجاب قدر الإمكان وبموجب توافق الآراء لعديد المواقف ووجهات النظر، ثم يختتم بشكر الجميع، ويؤكد رفع تقريره إلى الجلسة العامة للبرلمان؛ لكي يتخذ ما يراه بعد مناقشة، ما تم التوصل إليه.
بيانا اللجنة التي يترأسها النائب المحترم المعين بمجلس النواب الأستاذ/ إبراهيم الهنيدي( لا نقول مستشار إقلالا منه، لأن مستشار ولواء وسفير مناصب وظيفية)، جانبهما الصواب، لأنهما خرجا عن اللغة الدارجة والمتعارف عليها من دبلوماسية واختيار منمق للألفاظ، تتسم بالحكمة وأدب الحوار وعفة لسان البرلمان، ما يجعل القارئ في الأحوال الطبيعية تلك في حالة ثراء فكري من اللغة والأسلوب، ويُكسبه قدرا من المصداقية. لكن اللجنة خالفت الظنون، وأتت بلغة مغايرة تماما، جعلت القارئ متعاطف آليا مع من تم التطاول عليهم واتهامهم في فكرهم ومواقفهم.
بدأ البيان الأول للجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بإشارته، بأن اللجنة كانت تعمل في الإجازة البرلمانية، وكأنها تتفضل على الناس بجهد غير مطالبة به، رغم أن كافة الأعراف البرلمانية الدولية، ومنها الأعراف المصرية التي تتسم بالعراقة والمهنية، كلها تؤكد أن البرلمان كمؤسسة لا يتوقف عملها عقب فض الدورة البرلمانية، إلا فقط الجلسات العامة للبرلمان التي تعلق لبضعة أسابيع وفقا للدستور.
بعد ذلك، بدأت اللجنة في العبارات التي توحي بتوبيخ، وربما سب الآخر المعارض، وهي في معرض تناولها لما تم بشأن مشروع قانون الإجراءات الجنائية، وفي القلب منه تنظيم مسألة الحبس الاحتياطي، (والذي لم يذكره بالاسم، وإن كان قد اتضح من البيان التالي بعد يومين، أن المقصود منه نقابة الصحفيين)، بقوله في البيان الأول، إن ملاحظات نقابة المحامين اتسمت بكونها “مقترحات موضوعية”، وأن البعض قدم “ملاحظات موضوعية”. وفي البيان الثاني، بدأ التطاول على نقابة الصحفيين علنا بوصف أعضاء نقابة المحامين على الترتيب، بأنهم “ممثلو النقابة المحترمون”، وأنهم اتسموا بـ “الوطنية” وكونهم ذو “أداء راقي وأسلوب متحضر”، وكأنه يقول، إن الآخرين ليسوا بمحترمين وخونة ومتخلفين على الترتيب. ثم عرج البيانان إلى استخدام العبارات المطاطة والهلامية التي تحتمل معاني متباينة وشديدة العمومية، بالقول: “النقد البناء مرحب به، متى كان قائما على أسس موضوعية، تستند إلى الدراسة المتعمقة والفهم الصحيح” و”إننا نضع نصب أعيننا مصلحة الوطن أولا وأخيرا”. وكلها كما هو واضح كلمات لا معنى ممسوك وواضح لها، ناهيك عن أنها تهدف إلى رمي الآخر المعارض بعكسها.
في سب وقدح أكثر وضوحا، تجاوزت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في عديد الألفاظ التي اتسمت بالتجريح والتطاول والسقوط المدوي، متهمة المنتقدين للمشروع في جهل واضح بالبيئة الداخلية المصرية وأحداثها السياسية، بأنهم أصحاب مصلحة سياسية، وكأن انتخابات البرلمان قد بدأت، أو كإننا على مشارف انتخابات رئاسية أو انتخابات نقابية يسعى المنتقدون للترشح فيها أو الحصول على مغانم منها. قال البيان الأول، إن المعارضين لمشروع القانون ممن استمعت إليهم اللجنة “لجأوا إلى تحويل الخلاف التشريعي إلى خلاف سياسي” متجاوزين حدود النقاش القانوني إلى مهاجمة مشروع القانون والجهة التي أعدته”، جاء ذلك رغبة منهم في “توظيف هذا النقد لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية” و” اتخذوا من الكذب طريقا والتضليل منهجا”، وأدى ذلك إلى أنه “كشف عن فشلهم في مواجهة مشروع القانون تشريعيا؛ فعمدوا إلى تحريف النقاش”.
أما البيان الثاني الذي خلع لباس أدب الحوار كلية، فقد هدد النقابة صراحة فزاد من التطاول بقوله، إن اللجنة “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام إدعاءات مغرضة تهدف إلى إرباك الرأي العام وزعزعة الثقة في مؤسسات الدولة، حتى ولو صدرت من أناس يستترون خلف جدار حرية الرأي. “ونصبت اللجنة ورئيسها ذاتها حراس على الوطن وحدهم بقولها: “المصلحة العامة للمواطنين تأتي في المقام الأول، والرأي العام المصري هو أمانة في أعناقنا، ولن نسمح أن يتم التلاعب به أو تضليله تحت أي مسمى”. وأضافت صراحة، أنه بعد الاطلاع على كلمة نقيب الصحفيين، وجدت اللجنة، أن كلماته “تفتقر إلى الدقة، وتعتمد على مغالطات فجة، حيث تم اتهام مجلس النواب بالتعجل والعصف بالحقوق والحريات، وهو اتهام ينحدر إلى حد الزيف المتعمد” و”تضليل الرأي العام بتصوير البرلمان كجهة تعمل ضد مصلحة المواطنين.. وإن استخدام لغة التحريض في كلمته لا يخدم مصلحة الحوار البناء، بل يعزز مناخ التشكيك”.
هكذا كان أداء اللجنة الدستورية والتشريعية، ونحن على أعتاب فصل تشريعي جديد، يبدأ نهاية عام 2025، عقب انتخابات برلمانية، على الأرجح سيجري جزء معتبر من عضوية البرلمان فيه وفق النظام الانتخابي الشائه عالميا، وهو نظام القوائم المطلقة الذي يتضمن شبة تعيين للنواب أو تزكية لهم، فهو نظام الكتلة الحزبية الذي يتيح للسلطة المقررة له في 5 دول فقط حول العالم، تزوير إرادة الناخبين، بتحويل أصوات 49% منهم إلى من حصل على 51%. كما أننا على أعتاب تعيينات جديدة لنواب البرلمان الجديد، كل ذلك يجعل المسلك الشائه الذي رأيناه من البعض في البرلمان، خاصة من كبار السن- والذين لم يعد لهم دور واضح غير هذا الدور هو الأمل في البقاء في عضوية البرلمان، أي أن هناك من هم داخل تلك اللجنة من كان لهم نظرة بعيدة سياسية متعلقة بذواتهم، بشأن مستقبل وجودهم في عضوية البرلمان. جدير بالذكر أن ذلك البرلمان يعتبر في واقع الأمر برلمان تمريري Rubber Stamp في ظل مناخ الخلل البين في التوازن بين سلطات الدولة لصالح السلطة التنفيذية، بحكم الدستور والقانون والممارسة على أرض الواقع، وكلها أمور، تهدف لجعل تلك المؤسسة أداة طيعة، خاصة في ظل غياب الأحزاب السياسية عن لعب دور فاعل.
في الساعات القليلة القادمة، سيعقد نادي القضاة بمصر، اجتماعا موسعا لتوضيح موقفه المعارض لمواد القانون المقترح، والذي قال عنه بيان النادي الذي صدر مؤخرا، إنها “تخل بنظام الجلسات بالمحاكم، وتغل يد القاضي عن فرض النظام داخل الجلسة” وهو اجتماع يهدف إلى “تحديد كافة المشكلات العملية الناتجة عن تطبيقها، والتي تعوق تحقيق العدالة”، لأن السلطة القضائية كما قال البيان: “إذا قويت زاد تحضر المجتمع، وإذا ضعفت فقد المجتمع ثقته فيها وأحجم عن اللجوء إليها في استرداد حقه”. هكذا كان رد النادي المبدئي، على ما قام به مجلس النواب، فهل ستمتلك لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية الشجاعة التي أبدتها في مواجهة نقابة الصحفيين، وتفتعل أزمة مع القضاة أيضا، أم إننا سنكون أمام المثل الشعبي.. أسد على النقابة ونعامة أمام القضاة.