تراجعت الآمال المنعقدة على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، للقيام بدور رئيس في استقرار إقليم القرن الإفريقي، واحدة تلو أخرى بعد نجاح أولي، ومباغت، في تحقيق السلام مع جارة بلاده إريتريا خلال عام واحد من توليه السلطة، ومنحه جائزة نوبل للسلام؛ اعترافًا من هيئة الجائزة بدوره الأساسي في هذا المسار.
لاحقاً، أفضت اختبارات مثل الحرب الأهلية التي نشبت بين نظام آبي أحمد، وجبهة تحرير التيجراي (نوفمبر 2020-2022)، واحتكار حزب الازدهار الذي أسسه آبي أحمد، لمفاصل إدارة البلاد وتهميش التحول الديمقراطي بشكل واضح، وانتهاج إثيوبيا في المحصلة، سياسات عدوانية مغلفة بخطابات تهدئة في عدد من الملفات مثل، التدخل في الأزمة السودانية (بدعم أطراف “المكون المدني” حتى منتصف العام الجاري)، فضلا عن توجيه رسائل تهديد مبطنة بشكل دوري للقاهرة بشأن التحكم في مياه نهر النيل، والتدخلات الإثيوبية الأخيرة والصريحة في الشأن الصومالي بتوقيع مذكرة تفاهم للحصول على شريط ساحلي في ولاية أرض الصومال بشروط سيادية لمدة 50 عامًا، وكذلك ممارسة ضغوط اقتصادية كبيرة على دولة جنوب السودان للقيام بخطوات، تتسق مع مجمل سياسات إثيوبيا الخارجية؛ أفضى كل ذلك إلى حالة راهنة قوامها النظر لآبي أحمد، باعتباره عبئًا على السلم والأمن في الإقليم؛ وهو ما يبدو من المقاربة الأمريكية لنظام آبي أحمد في الآونة الأخيرة، باعتباره من أهم عوامل عدم الاستقرار في الإقليم، واستبعاده من مجمل الترتيبات الأمريكية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي؛ عشية إجراء الانتخابات الأمريكية نوفمبر المقبل.
تجديد الحكم الثيوقراطي
عرف الإمبراطور الإثيوبي الراحل هيلاسيلاسي، بلقب أسد يهوذا، الذي يرمز إلى قوة يسوع ونسبه الملكي وتحقيق نبوءة العهد القديم عن “المسيح من سبط يهوذا”، دلالة على انتصاره وقدرته على تنفيذ خطة الله للدينونة والفداء، وأنه- ضمن دلالات أخرى- الوريث الشرعي لعرش “النبي داود”. وتجلت مظاهر الحكم الثيوقراطي في حياة هيلاسيلاسي، حتى وقوع الثورة الإثيوبية ضد حكمه قبل نصف قرن (سبتمبر 1974)، وتبنيها في مسارات مضطربة أفكار الماركسية- اللينينية قبل نهاية حكمها مطلع التسعينيات (1991) بعزل منجستو هيلاميريام، وفراره لاجئاً إلى زيمبابوي حيث يعيش حاليًا.
وبغض النظر عن الصعود السريع لآبي أحمد (مولود في 1976) في سلم السلطة في ظل حكم جبهة تحرير التيجراي والتحالف الذي شكلته فقد لقي وصوله للحكم احتفاء ملفتا من جهات كنسية غربية كبيرة، باعتباره زعيمًا ملهمًا، يعتنق المسيحية الخمسينية “حركة إنجيلية”، وقرينا للنبي موسى الذي خلص شعبه من العبودية والقهر.
من جانبه، لم يفت آبي أحمد، فرص تعميق هذه الصورة الذهنية الدعائية، لأسباب متنوعة، وطرح تصورات أقل ما يقال عنها، إنها سطحية وساذجة في عملٍ، حمل اسم Medemer ليقدم فيه تصوراته ورؤاه لمستقبل إثيوبيا من قبيل الحاجة “لفلسفة إثيوبية مستقاة من شخصية الإثيوبيين الأساسية، والتي يمكنها حل مشكلاتنا. وأن تربط فيما بيننا جميعًا” وأن الثقافة الإثيوبية (؟) تضمن الشمول والتعاون.
وهو وصف يتنافى مع تجربة إثيوبيا التاريخية وطبيعة الحكم الإمبراطوري، ثم الاستقطابات إثنية الطابع في إدارة البلاد حتى الوقت الراهن، كما اتضحت في إدارة أديس أبابا للحرب في إقليم التيجراي، وتكبيد خسائر كلفت عشرات الآلاف من مواطني الإقليم من إثنية التيجراي حصرًا، وهو ما عده مراقبون إثيوبيون نهاية مشروع بناء الدولة لصالح إذكاء الحرب الأهلية- الإثنية.
ومثلت قيادة آبي أحمد لبلاده منذ إبريل 2018 صعودًا متعاظمًا لملامح الحكم الثيوقراطي، على الأقل في مستوى القيادة العليا.
وأكد رئيس الوزراء في مناسبات عدة، أنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ إثيوبيا وشعبها؛ وما اعتبرها أندرو ديكورت A. DeCort في مقال شهير في فورين بوليسي (يونيو 2022) صعودًا للإمبريالية المسيحية داخل إثيوبيا بفضل رؤى آبي أحمد، غير الواقعية باستعادة مجد إثيوبيا المقدس ([1])؛ قبل أن يعود الصحفي البارز المعني بشؤون إثيوبيا (في جريدة الإيكونوميست) توم جاردنر، لتقديم صورة مفصلة عن “المقدس” في سياسات آبي أحمد، في كتابه الهام The Abiy Project: God, Power and War in the New Ethiopia (يونيو 2024) ضمن سرد مفصل وعميق عن شخصية آبي أحمد، من جميع أبعادها وجوانبها السياسية.
كما أعلن آبي أحمد مرارًا تبنيه مقاربات وحدوية؛ لإعادة أمجاد إثيوبيا، كما رآها متجسدة في فكرته عن “الإثيوبيانية” Ethiopianism (التي تمزج هوية إثيوبيا بالمسيحية بالأساس، ووفق نموذج إمبراطوري فج بقواعد أقرب للعصور الوسطى)، متجاوزًا حقيقة تكون هذه الفكرة على “أنقاض” تهميش إثني وسياسي وديني واقتصادي لجماعات “إثيوبية” شتى، لا سيما في المناطق الجنوبية والغربية من إثيوبيا الحالية، والتي تقطنها أغلبيات “غير مسيحية”، ومن ثم تبدو مقاربة آبي أحمد “الثيولوجية” غير وطنية في مستوى آخر، وأنه يعمد إلى تجديد الثيوقراطية الإثيوبية من بوابة، ما يسميه “إصلاح إثيوبياني”.
الصعود والإخفاق والتهديد
اكتسبت خطوات آبي أحمد وصولًا لرئاسة الوزراء، وما بعدها سمة القفزات الواضحة، والتي يصعب تبريرها في بعض الأحيان وفق قواعد الترقي السياسي التقليدية؛ ومن أمثلة ذلك تقلده وزارة العلوم الإثيوبية لفترة وجيزة، ثم اضطلاعه بمهام رئيسة في جهاز الأمن الوطني الإثيوبي، وتوجهه نحو فرض رقابة لصيقة على وسائل التواصل الاجتماعي لدى جميع مواطني إثيوبيا، ما يثير علامات استفهام حول رؤيته الإصلاحية.
وتنطبق نفس الملاحظة على سياسات آبي أحمد تجاه دول جواره في القرن الإفريقي الكبير، حيث عمد بشكل واضح إلى محاولة فرض هيمنة بلاده على مقدرات العديد من هذه الدول، وانتهاك سيادة عدد آخر بالتوازي مع تصريحات دبلوماسية مناقضة للسياسة العملية على الأرض.
ومثالًا على ذلك، لم تنقطع تأكيدات أديس أبابا باحترام وحدة الصومال وسيادته منذ مطلع يناير 2024، بعد توقيع أديس أبابا مع ولاية ارض الصومال التي تمثل انتهاكًا صريحًا لهذه الوحدة والسيادة.
ورغم ذلك بادر آبي أحمد في 9 سبتمبر الجاري بتهديد أطراف، لم يحددها (مصر والصومال على الأقل، حسبما يفهم من السياقات الحالية) بإذلالها حال إقدامها على تهديد سيادة إثيوبيا، مؤكدًا أن بلاده “لن تتفاوض” مع أية دولة حول سيادة إثيوبيا وكرامتها ([2])، وهي جملة غامضة للغاية، ولا يمكن تبين القصد منها على وجه الدقة، لا سيما أن إثيوبيا هي التي بادرت بالاتفاق على استئجار شريط ساحلي داخل الأراضي الصومالية بالمخالفة لمبادئ الاتحاد الإفريقي الذي تستضيف مقره.
وتضاعفت حالة العدوانية الإثيوبية؛ ردًا على اتفاقية التعاون العسكري بين الصومال ومصر، والتي دخلت حيز التنفيذ في أغسطس 2024، واعتبرها مراقبون تمهيدًا لافتتاح جبهة جديدة بين مصر وإثيوبيا، بينما اعتبرتها أديس ابابا ضمن جهود دول بعينها “لاتخاذ إجراءات تزعزع استقرار الإقليم”([3])، رغم أن الاتفاقية ثنائية وتهدف لمشاركة مصر في قوات حفظ السلام الإفريقية التي تعمل وفق ضوابط مقررة لصيانة سيادة الصومال، وإعادة بناء قدراته الأمنية والعسكرية بالأساس وليس تهديد دول جواره.
وفيما يخص دور إثيوبيا في القرن الإفريقي، فإن ثمة مؤشرات على تراجع قوة هذا الدور واكتفاء أديس أبابا بـ “الابتزاز الدبلوماسي” لدول مثل السودان (عبر استغلال ورقة أزمته الداخلية ومراوغة المواقف من دعم المكون المدني في المرحلة الانتقالية ضد مجلس السيادة والقوات المسلحة السودانية، إلى دعم الأخيرة بعد زيارة مهمة قام بها آبي أحمد، إلى بورتسودان في 9 يوليو الفائت)، وتخوف إثيوبيا المتزايد من فتح مصر جبهة مواجهة معها من الجنوب وهو تهديد بالغ بالنظر إلى طبيعة التكوين الإثني والسكاني في جنوب شرق إثيوبيا وتحديدًا الإقليم الصومالي الإثيوبي (أوجادين) الذي تمتد صلاته الإثنية والاجتماعية والثقافية إلى داخل الصومال([4]).
الأمر لا يقل سخونة على جبهة العلاقات الإثيوبية- الإريترية إذ تصاعد التوتر بين البلدين بشكل واضح، ودل عليه إغلاق الأجواء الإريترية أمام مرور الطيران الإثيوبي قبل أسابيع، ثم ما كشفه قائد جبهة تحرير التيجراي الشعبية دبرصيون جبرمايكل، في مؤتمر صحفي مهم في مكلي عاصمة التيجراي (10 سبتمبر الجاري) عن قيام الجبهة بمفاوضات مباشرة مع إريتريا “قبل ستة أشهر” (مارس 2024) في مدينة دبي.
جولة المحادثات كانت جلسة أولى مثل الإقليم فيها جيتاتشو رضا، رئيس الإدارة الإقليمية الانتقالية في الإقليم، وأكد أن اجتماع دبي تلاه اجتماعات أخرى “مع مسئولين إريتريين”، وقامت هذه المحادثات بناء على قرار “اللجنة التنفيذية لجبهة تحرير التيجراي”، (والتي تم رفعها من قوائم المنظمات الإرهابية التي تحددها الحكومة الإثيوبية)”.
ولفت الزعيم التيجراوي إلى قناعة الجبهة بضرورة تحقيق السلام مع جميع جيران الإقليم “بمن فيهم قوات فانو (التابعة لإثنية الأمهرا الإثيوبية) والحكومة الإريترية”([5])، وتشي تلك التصريحات بحقيقة تراجع تماسك الدولة في إثيوبيا على نحو، قد يتجاوز قدرات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الحقيقية، ويخصم من تلك المدعاة باستمرار.
خلاصة
تشي هذه الأمثلة، بانكماش الدور الإثيوبي في الإقليم بعد تمدده بشكل فائق في الأعوام الأخيرة، لكن دون تحقيق تفاهمات إقليمية حقيقية، حول ما كان يروج له آبي أحمد، مثل التكامل الإقليمي ولعب بلاده دور قاطرة هذا التكامل، لصالح سياسات جزئية، تستهدف الانتقاص من سيادة دوله.
ويمكن ملاحظة أن دور آبي أحمد الإقليمي– في القرن الإفريقي- قد وصل بالفعل إلى حالة انسداد وعدم وضوح في رؤيته المستقبلية خارج مسار الصدامات وتصعيد الأزمات.
[1] Andrew DeCort, Christian Nationalism Is Tearing Ethiopia Apart, Foreign Policy, June 18, 2022 https://foreignpolicy.com/2022/06/18/ethiopia-pentecostal-evangelical-abiy-ahmed-christian-nationalism/
[2] Agence France-Presse , Ethiopia PM issues warning over sovereignty, September 9, 2024 https://globalnation.inquirer.net/248429/ethiopia-pm-issues-warning-over-sovereignty
[3] Alec Soltes, Egypt Opens New Front against Ethiopia with Somalia Deal, Geopolitical Monitor, September 13, 2024 https://www.geopoliticalmonitor.com/egypt-opens-new-front-against-ethiopia-with-somalia-deal/
[4] Gurjit Singh, How Horn of Africa is on the brink of a crisis again, First Post, September 13, 2024 https://www.firstpost.com/opinion/how-horn-of-africa-is-on-the-brink-of-a-crisis-again-13814809.html
[5] Mulugeta Atsbeha , Ethiopia: Tigray Leader Reports Talks With Archrival Eritrea, All Africa, September 10, 2024 https://allafrica.com/stories/202409110065.html