كان مطلب إعادة النظر في منظومة القوانين المتعلقة بالعدالة الجنائية، وبشكل خاص تعديل قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية، أحد أهم مطالب القانونيين والحقوقيين المصريين بهدف؛ تحقيق ضمانات المحاكمة العادلة بشكل كامل، وتنقية هذه القوانين من المواد سيئة السمعة الواردة بقانون العقوبات الصادر برقم 58 لسنة 1937، وقانون الإجراءات الجنائية برقم 150 لسنة 1950، واللذين صدرا ومصر تحت الاحتلال الإنجليزي في عامي 1937 ،1950 على التوالي، وكانت التعديلات المتعاقبة لهذين القانونين إحدى حلول النظام السياسي لتحقيق أهدافه.

وكانت تتركز أهم المطالب في ضرورة الفصل بين سلطتي النيابة العامة في التحقيق والاتهام، والتأكيد على الاستقلال الحقيقي للنيابة العامة، وإلغاء ما يسمى بنيابات أمن الدولة، واستحداث نظام قاضي الحبس، وهو المسئول عن اتخاذ قرارات الحبس الاحتياطي.

الا أننا فوجئنا بمشروع للجنة التشريعية بمجلس النواب، يضع نصا كاملا بديلا لقانون الإجراءات الجنائية في غيبة الرأي العام ونقابة المحامين ومؤسسات حقوق الإنسان، وفي غيبة دور الانعقاد لمجلس النواب من الأساس، فلماذا هذا التعجل في وضع تعديل لهذا المشروع بعيدا عن وسائل الاعلام ورقابة الرأي العام، وهو ما يضع مزيدا من علامات الاستفهام على توقيت وضع المشروع ومبرراته.

على النقيض، كان مشروع التعديل الجديد لقانون الإجراءات الجنائية متناقضا مع تلك المطالب، واستندت فلسفته الأساسية على ا لتراجع عن كل المتبقي منه من إيجابيات محدودة، بل والعصف بكل حقوق الدفاع نظريا، بعد أن أطيح بها عمليا من خلال التجاوزات التي تتم مع المحامين، والتي وصلت إلى حبسهم، وعدم إتاحة الفرصة لهم للاطلاع وتقديم الدفوع والترافع، خاصة بعد استحداث تجديد الحبس عن بعد عبر دائرة تلفزيونية مغلقة. والتراجع عن ضمانات كاملة كانت معطاة للمتهمين، وإضعاف الضمانات التي كانت تحيط بحقوق الدفاع نظريا على الأقل.

حتى صياغة بعض مواد المشروع، تبدو ركيكة بالمقارنة بالقانون الحالي، وكل ما هي ركزت عليه إعطاء النصوص الحالية المعطاة لقاضي التحقيق، لأعضاء النيابة العامة، بالرغم من اختلاف السلطة المخولة لكل منهما، مع المزيد من التقديم والتأخير في نصوص المواد، مما يخل بالغرض منها.

لماذا تم إلغاء دور قاضي التحقيق؟

يرتكز المشروع على إطلاق سلطة النيابة العامة في كافة الصلاحيات المخولة لها بموجب التعديل الجديد ، وإلغاء فصل كامل يتعلق بدور قاضي التحقيق وجواز تكليفه بالتحقيق في بعض القضايا.

المشروع الحالي حذف الباب الثالث من القانون الحالي (المواد من 64ـ 199)، وهو الخاص في التحقيق بمعرفة قاضي التحقيق، ونقل صلاحياته كاملة للنيابة العامة، وهو النظام الذي كان يحقق ضمانات أفضل للتحقيق مع المتهمين، وبالرغم من أنه لم يتم ممارسته بشكل دائم.

وكان يتم اتباعه في حالة، إذا ما رأت النيابة العامة، أن تحقيق الدعوى بمعرفة قاض التحقيق أكثر ملاءمة بالنظر إلى ظروفها الخاصة، جاز لها أن تطلب لرئيس المحكمة الابتدائية ندب أحد قضاة المحكمة لمباشرة هذا التحقيق، ومتى أحيلت الدعوى إلى قاضي التحقيق، كان مختصا دون غيره بتحقيقها، ليلغي النص تماما نظام قاضي التحقيق، لتبقى النيابة العامة هي المنفردة بكل السلطات في التحقيق والاتهام والإحالة، وباقي الإجراءات التحفظية التي يتضمنها القانون دون رقابة حقيقية.

ـ يستحدث المشروع سلطة إضافية للنيابة العامة في المادة 64 بجواز طلب عضو النيابة العامة، من نيابة أخرى خارج دائرة اختصاصه، إجراء بعض التحقيقات في القضية، ولهذه النيابة أن تجرى أي عمل آخر من أعمال التحقيق، أو استجواب المتهم في الأحوال التي ترى فيها لزوما لذلك. وهو نص غير موجود بالقانون الحالي، ولا يعرف الهدف من ورائه إلا إذا كان لتشتيت دور الدفاع.

كما تنص المادة 63 من المشروع على الأمر ونقيضه، عندما تشير إلى حق النيابة العامة في ندب أحد مأموري الضبط القضائي في أي عمل من أعمال التحقيق، عدا استجواب المتهم، إلا أنها تتراجع عن هذا الاستثناء مرة أخرى، حيث تعطي الحق في من تم ندبه إجراء هذه الأعمال، بما فيها الاستجواب في الأحوال التي يخشي فيها فوات الوقت!! ويعتبر منح مأموري الضبط القضائي سلطة التحقيق واستجواب المُتهم، حتى ولو على سبيل الاستثناء، إخلالا بضمانات المحاكمة العادلة، خاصة أن مأموري الضبط القضائي وفقاً للمادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية، يكون من بينهم فئات متعددة، منها ضباط الشرطة والأمناء وكذلك العُمد والمشايخ..إلخ.

ـ المادة 82 من المشروع تشير، على أنه يجوز لعضو لنيابة العامة بناء على أمر مسبب الاطلاع على الخطابات والرسائل.. لكنها لا تشير إلى صاحب الصفة التي يصدر فيها هذا الأمر المسبب، هل هو عضو النيابة نفسه، أم قاضي المحكمة الجزئية؟!

ضمانات دون حماية حقيقية

كما أن المشروع وضع عدد من الالتزامات على رجال الضبط القضائي والمبادئ العامة، لكن لم يعط مسئولية في حالة تجاهل هذه الالتزامات ومنها: 

ـ إشارة المادة 27 من المشروع على ضرورة إبراز رجال الضبط القضائي ورجال السلطة العامة، ما يثبت شخصياتهم وصفاتهم عند مباشرة أي عمل، أو إجراء منصوص عليه قانونا، إلا أنه لا يرتب على مخالفة هذا الإجراء بطلان العمل أو الإجراء، فقط هناك إمكانية بتوقيع الجزاء التأديبي، وهو هنا يعطي مزيدا من السلطات لرجال الضبط القضائي في الاعتياد على عدم إبراز إثبات شخصياتهم. 

ـ تعطي المادة 36 للمتهم حق الصمت، إلا أنها لا تقدم حماية لهؤلاء المتهمين؛ لأنهم يكونون في الواقع تحت سلطة أفراد الضبط القضائي، وبمقدور هؤلاء ممارسة المزيد من الضغط المعنوي والمادي عليهم؛ لإجبارهم على الحديث.

ـ، المادة 37 التي تشير إلى عدم جواز احتجاز أي شخص، إلا في أماكن الاحتجاز ومراكز الإصلاح والتأهيل المخصصة لذلك، لم تعالج ما يحدث عمليا في كثير من قضايا أمن الدولة باحتجاز المقبوض عليهم في أماكن احتجاز، تتبع الأمن الوطني لفترات طويلة، قبل عرضهم على النيابة العامة.

ـ بينما تشير المادة 45 من المشروع، إلى أنه يجوز لكل من علم بوجود محبوس بصفة غير قانونية، أو في محل غير مخصص للحبس إخطار أحد أعضاء النيابة العامة، وعليه بمجرد علمه الانتقال فورا إلى المحل الموجود به المحبوس، وأن يقوم بإجراء التحقيق، والأمر بالإفراج عن المحبوس بصفة غير قانونية. وهو نفس النص الوارد بالقانون الحالي، وهو نص لا يتم الالتزام به من رجال النيابة العامة، اذ هناك مئات البلاغات المقدمة اليهم بشان القبض على أشخاص في أماكن محددة، دون أن يقوموا بإجراء التحقيق فيها.

المساس بحقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة:

ـ يعطي المشروع في المادة 69 صلاحيات إضافية لأعضاء النيابة في استبعاد الحاضرين مع المتهمين والمدعين بالحقوق المدنية، حيث تجيز لعضو النيابة العامة إجراء التحقيق في غيبتهم متى رأي ضرورة ذلك، وهو ما يمس بضمانات الحق في الدفاع، حتى لو تم السماح لهم بالاطلاع فور انتهاء تلك الضرورة التي يقدرها هو بالضرورة، وليس هناك رقيب عليه فيها.

وهذا النص كان واردا في الباب الخاص في التحقيق بمعرفة قاضي التحقيق في المادة 77 من القانون الحالي، وهو نفس ما فعله المشروع الحالي بالنص الخاص بتفتيش منزل المتهم في المادة 75 من المشروع، والذي لا يجيزه القانون الحالي، إلا بموجب أمر من قاضي التحقيق نفس ما قامت به في النص الخاص 79 بضبط جميع الخطابات والرسائل والبرقيات، وكأن النيابة العامة انتزعت هذه السلطات لممارستها، بدون رقابة حقيقية عليها. وأيضا هو ما حدث مع باب سماع الشهود الذي نقلت صلاحياته إلى النيابة العامة كاملا.

ـ المادة 72 من المشروع، تشير إلى أنه يجوز للخصوم ووكلائهم تقديم الدفوع والطلبات للنيابة العامة، إلا أنها تعود للخلف مرة أخرى، وتشير لعدم جواز التحدث لوكيل الخصم إلا إذا أذنت له النيابة العامة، فاذا لم تأذن وجب إثبات ذلك في المحضر، وهو قيد آخر على حرية الدفاع في تقديم الدفوع والطلبات عن موكليهم، وهي مادة مستحدثة أيضا.

المادة 105 من المشروع، تنص على تمكين محامي المتهم من الاطلاع على التحقيق أو الاستجواب بيوم على الأقل، ما لم يقرر عضو النيابة خلاف ذلك، وهذا النص لا زال واردا ضمن صلاحيات قاضي التحقيق في المادة 124 من القانون الحالي، ولا ينص المشروع على اعتبار ذلك من حقوق المدافع عن المتهم، فهل يوم واحد كاف لقيام المحامي بعمله في إعداد رد على الاتهامات الخاصة بموكله.  

المادة 40 من المشروع، والتي يقابلها المدة 36 من القانون الحالي، هناك اختلاف كامل في الصياغة، يحمل إهدارا لحقوق المتهمين، حيث يشير التعديل إلى وجوب قيام مأمور الضبط بإبلاغ المتهم فورا بسبب؛ تقييد حريته وبالتهم المنسوبة إليه، وأن يسمع أقواله وإحاطته بحقوقه كاملة، وتمكينه من الاتصال بذويه ومحاميه.

كما يشير النص الحالي إلى التزام مأمور الضبط سماع أقوال المتهم فورا، وإذا لم يأت، بما يبرئه، يرسله في مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة المختصة. فهناك فارق بين أولوية السماع الفوري للمتهم، وإبلاغه الفوري بالتهم.

كما حذف المادة 40 النص الخاص بدور النيابة العامة في الأمر بالقبض عليه أو إطلاق سراحه الموجودة في القانون الحالي، الذي كان ينص على ”يجب على النيابة العامة، أن تستجوبه في ظرف أربع وعشرين ساعة، ثم تأمر بالقبض عليه أو بإطلاق سراحه”، وهو ما يعني انتقاصا من ضمانات المتهمين أيضا.

ـ المادة 44 من المشروع تجيز “للنائب العام ولأعضاء النيابة العامة ولرؤساء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية حق دخول الأماكن المخصصة لإيداع المحبوسين في دوائر اختصاصهم.. بينما لم يشر النص الحالي للصيغة الجوازية، حيث أعطى الحق مباشرة لهذه الجهات بالزيارة؛ للتأكيد من عدم وجود محبوس بصفة غير قانونية.

ومع إشارة المتخصصين السلبية لهذا المشروع على اللجنة التشريعية بمجلس النواب، وقف مناقشة هذه التعديلات فورا وعقد جلسات استماع لممثلي نقابتي المحامين والصحفيين وأساتذة القانون المستقلين بالجامعات ومنظمات حقوق الإنسان.