بينما أجلس لكتابة هذه السطور، أذاعت وكالة تسنيم الإيرانية للأنباء ما نصه: “ازدواجية المعايير هيمنت على القضايا الرياضية الدولية”، وقد جاء ذلك على لسان قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، لدى استقباله أعضاء البعثة الرياضية التي شاركت في باريس. توافقت إيحاءات الكلام، مع ما كنت استعد للكتابة فيه، وهو ازدواجية البنية الدستورية للنظام السياسي في إيران، ازدواجية مشبعة بالتناقضات الداخلية التي تجعل القبضة الحديدية هي الضمان الوحيد الفعال لبقاء النظام الديني، واستمراره وليس ما يجري من انتخابات دورية يشارك فيها الشعب سواء لاختيار رئيس الجمهورية، أو لاختيار نوابه في مجلس الشورى البرلمان، إذ يمثل مقام الرئيس ومقام البرلمان شكلين مستعارين من الديمقراطية المعاصرة بصلاحيات محدودة ومقيدة، بينما جوهر السلطة كله يقع في يد الفقهاء، ومن يمثلونهم في منصب المرشد الأعلى، ثم في مجلس خبراء القيادة ثم في مجلس صيانة الدستور، ثم في مجمع تشخيص مصلحة النظام، وهذه المقامات الأربعة بيدها زمام الحكم ولجامه من ألفه إلى يائه.

 ففي المادة الخامسة، من الدستور نقرأ: “زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في يد الفقيه العادل، المتقي لله، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير”، هذه المادة جعلت كل مكاسب الشعب الإيراني من الثورة يمكن إيجازها في التحول من ديكتاتورية الدولة البهلوية العلمانية إلى ديكتاتورية الدولة الدينية، من ديكتاتورية الشاه الذي ورثها عن أبيه إلى ديكتاتورية الولي الفقيه الذي ينوب عن الإمام الغائب الذي غاب عن الشهود مرتين: غيبة صغرى دامت أربعة وسبعين عاما، كان خلالها يتواصل مع أشياعه عبر مناديب وسفراء وضباط اتصال، ثم غيبة كبرى، بدأت من عام 328 أو 329 هجرية، ما يوافق 940 أو 941 ميلادية، حيث انقطع التواصل تماماً بين الإمام الحجة محمد بن الحسن، وهو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، كان أولهم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وغياب الإمام سر من أسرار الله تعالى، لا ينكره إلا جاحد، إذ الشك في أسرار الله جحود، وهو المهدي المنتظر، الذي وردت به الأحاديث الصحيحة سواء في كتب السنة أو الشيعة، وحسب محمد جواد مغنية في كتاب “الشيعة في الميزان”:” اتفق المسلمون على مر العصور، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يسمى المهدي، يؤيد الدين، ويُظهر العدل، ويستولي على البلاد ويملأها عدلاً”. هذه فكرة لها قداستها في الدين، لكن لا تصلح أساساً لدستور معاصر ولا حكم معاصر ولا دولة معاصرة، تصلح فقط لتأسيس رجعية دينية، تبتكر منظومة حكم يسيطر عليها الفقهاء، وهي ليست رجعية فقط بالنسبة لتطورات العصر الحاضر، لكنها رجعية حتى في تاريخ الحكم والدولة والسياسة في الإسلام، فالخلفاء الراشدون، ومن بعدهم ممن حكموا المسلمين، كانوا ذوي صفة سياسية مدنية بالدرجة الأولى، كثير من الخلفاء، كانوا فقهاء وعلماء وأدباء وشعراء وفلاسفة، لكن لم تكن هذه هي مسوغات الحكم، بل كانت مسوغات الحكم سياسية أولا وآخراً سواء كان الخليفة يستحق المنصب أو لا يستحقه، كانت المعايير سياسية أي رجل سياسة، وليست فقهية أي مختص بدراسة الفقه وعلومه، تخصيص الحكم في فئة الفقهاء بدعة مستحدثة في تاريخ الإسلام. ثم هي فكرة على النقيض تماماً من الروح الثورية الملهمة التي تجلى بها الشعب الإيراني، وألهب بها خيالات الشعوب المؤمنة بالحرية، صحيح أن المرشد الأعلى يحمل حتى اليوم لقب قائد الثورة الإسلامية، لكن الثورة ذاتها اندفنت يوم صدر الدستور في الأسبوع الأول من ديسمبر 1979، ينص على ولاية الفقيه، كما بينت المادة الخامسة المذكورة أعلاه، المرشد الأعلى- الآن- ليس قائد ثورة، لكن قائد ديكتاتورية شرق أوسطية.

لقب قائد الثورة في الحالة الإيرانية ليس بعيدا عن لقب قائد الثورة والأخ القائد في الحالة الليبية من انقلاب القذافي 1969، حتى ثورة فبراير 2011م، وإذا كان تحديث بطرس الأكبر في روسيا 1662- 1725 قد نقل روسيا من ديكتاتورية دينية، يتحالف فيها القيصر مع الكنيسة إلى ديكتاتورية دنيوية علمانية، ينخفض فيها دور الكنيسة الأرثوزكسية، فإن الإمام الخميني 1902- 1989م، فعل العكس، إذ نقل إيران من ديكتاتورية دنيوية علمانية، ينخفض فيها دور الحوزات الدينية إلى ديكتاتورية دينية السيادة فيها للفقهاء، وليست للشعب الذي لم يتوقف عن الثورة في وجه الطغاة من القاجارية والبهلوية من مطلع القرن العشرين حتى الثورة الإسلامية.

وهنا فإن ديكتاتورية الثورة الإسلامية في إيران تتشابه مع ديكتاتورية ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، فالأولى نقلت السيادة من الحكم البهلوي الفردي المطلق إلى حكم الولي الفقيه الفردي المطلق ولم تنتقل السيادة إلى الشعب الإيراني صاحب الحق الأصيل، فيما دفع ثمنه من ثورات، كذلك فإن ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، نقلت السيادة من الاحتلال ومن الملك ومن الأحزاب إلى الجيش وبالتحديد إلى مجلس قيادة الثورة، ثم إلى ضابط واحد يمثل الجيش في رئاسة الجمهورية، انتقلت السيادة إلى الضباط العسكريين، ولم تنتقل إلى الشعب المصري، حتى كتابة هذه السطور.

في إيران المرشد الأعلى، ومعه مجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام، هو المهندس الأعلى الذي يتولى تصميم النظام السياسي وهندسته وإدارته وصيانته وحفظ توازناته، وفي مصر فإن رئيس الجمهورية- ضابط الجيش- مع المؤسسات السيادية والأمنية والبيروقراطية هي المهندس الأعلى الذي يتولى صياغة نظام الحكم وهندسته وتوزيع توازناته وحفظ استمراريته.

بعد أكثر من قرنين من التحديث والثورة، لم تنقل السيادة إلى الشعب الإيراني، ولم تنتقل إلى الشعب المصري، وهنا تظهر الازدواجية في بنية الدستور في البلدين: الدستور الإيراني يرد السيادة كلها إلى الخالق جل في علاه ثم الخالق فوض الشعوب السيادة على مصائرها الاجتماعية، ولأمر ما غامض ينص الدستور الإيراني على سيادة الشعب بمعناها الاجتماعي، وليس السياسي حسب نص المادة 56، وتصل الازدواجية في الحالة المصرية ذروتها الحادة، حيث تنص المادة الرابعة من الدستور المصري على أن: “السيادة للشعب وحده”، وهو قول يجافي حقائق الواقع، إذ السيادة للرئيس وحده، تساعده- كما في الحالة الإيرانية- أجهزة غير منتخبة سيادية وأمنية وبيروقراطية لها اليد العليا بعد الرئيس في هندسة كل شيء في السياسة والاقتصاد والمجتمع والدين والثقافة إلى آخره.

صحيح أن رئيس الجمهورية في مصر منتخب من الشعب، ومن ثم هو يمثل سيادة الشعب، لكن هذا صحيح نظرياً وعلى الورق فقط فكافة الاستفتاءات الرئاسية، ثم الانتخابات الرئاسية من عام 1956 حتى عام 2023 م، قد خلت تماماً من أي منافسة، فقط مرشح واحد من ضباط الجيش، ويجري الاستفتاء بنعم ولا، ثم جاء نظام الانتخاب بين أكثر من مرشح، فتعدد المرشحون، لكن لم تحصل منافسة لسبب بسيط: المنافسون من أحباب وعشاق الرئيس، ترشحوا حباً فيه لإتمام الشكل الدستوري وتستيف الأوراق الرسمية ليس أكثر، ومن ثم توفر شكل المنافسة، لكن انعدمت المنافسة، ومن ثم لم يحدث أن مارس الشعب حق السيادة بالفعل، لكن يجري تمثيل ذلك بفهلوة لا نظير لها.

في النظام المصري لا يقوم المجلس الاعلى للقوات المسلحة بترشيح أو اختيار رئيس الجمهورية، لكن في إيران يقوم مجلس مشابه، وهو مجلس خبراء القيادة- 86 فقيها- باختيار وتعيين المرشد الأعلى، في الحالين لا يمارس الشعب الإيراني ولا الشعب المصري دوراً حقيقياً في التعبير الفعلي عن مبدأ السيادة للشعب، فالسيادة في إيران للفقهاء وفي مصر للجيش. هذا يفسر لماذا شعبان بهذه العراقة، ولماذا حضارتان بهذه الأصالة، ثم دولتان في عداد العالم الثالث ذاك المفهوم الذي لم يعد يستخدمه أحد. نبهاء الإيرانيين ونوابغ المصريين يجدون فرص النجاح في خارج البلدين، بينما الداخل يخضع لاحتكار الأقليات التي تحكم والمؤسسات التي تسيطر، والعقليات التي تحظى بالرضا والقبول.

تصل ازدواجية البنية الدستورية والقانونية للنظام الثوري في إيران ذروتها في الدور الذي يمارسه كل من مجلس صيانة الدستور- وهو مجلس يتكون بالتعيين- فوق الدور الذي يمارسه مجلس الشورى الإسلامي، وهو البرلمان المنتخب من الشعب، وهو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.