حرية الصحافة ليست شأنا خاصا بالصحفيين وحدهم، ولا الدفاع عنها قاصر عليهم.

حرية الرأي والتعبير صلب الحريات العامة، إذا تقلصت تراجعت جميعها بلا استثناء، وتدهورت صورة البلد في عالمه.

حسب مؤشر حرية الصحافة في العالم (2024)، تقبع مصر في آخر السلم، حيث تحتل المركز الـ (170) من (180) دولة.

الحقائق وحدها تتحدث، دون مساحيق تجميل.

الصحافة مهنة حرية، إذا سممت البيئة العامة؛ فإنها أول ضحاياها.

“حان الوقت لضرب الصحفيين بالأحذية”!

كان ذلك تعبيرا متفلتا على لسان قيادات نافذة في نظام الرئيس الأسبق “حسني مبارك”، ترددت أصداؤه بالفعل ورد الفعل في أكتوبر (2007).

بدت تلك العبارة بحمولتها المسمومة تدنيا خطيرا في لغة الحوار، وكاشفة بالوقت نفسه عن أزمات معلنة ومكتومة، توشك أن تنفجر.

بلغة أقل حدة، لكنها معبأة بطاقة الكراهية نفسها استخدمت إحدى لجان مجلس النواب عبارات غليظة بحق نقيب الصحفيين “خالد البلشي” على خلفية الانتقادات التي تبنتها النقابة بشأن مشروع القانون الجديد للإجراءات الجنائية.

قالت بالنص في بيان أصدرته: “إن اللجنة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ادعاءات مغرضة؛ تهدف إلى إرباك الرأي العام وزلزلة الثقة في مؤسسات الدولة”… “من إناس يستترون خلف جدار حرية الرأي”.

كانت تلك المرة الأولى في التاريخ البرلماني المصري، التي تستدعى فيها مثل هذه العبارات من القاموس الأمني القديم، كأن مشروع القانون نصا مقدسا، لا يجوز النقاش فيه، أو الاعتراض على ما يحتويه من شبهات عدم دستورية.

قيل بالمغالطة: ما شأن نقابة الصحفيين بمشروع قانون، لا يتعلق بهم باستثناء المواد الخاصة بالحبس الاحتياطي؟!

بالتعريف، فإن نقابة الصحفيين نقابة رأي، من واجبها الدفاع عن المواطنين وحقوقهم.

إذا ما تقاعست عن أداء واجبها في النقاش بالاتفاق والاختلاف حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية، أو ما يطلق عليه الدستور المصغر، فإنها تتخلى عن طبيعة مهمتها وأية آمال معلقة على أدوارها.

لأهمية القانون، دعت نقابة الصحفيين إلى أوسع حوار مجتمعي قبل إقراره.

بمواريث الكراهية لحرية الصحافة، أفلت عيار اللجنة الفرعية، التي أعدت مشروع القانون، وتبدت- برد الفعل- بوادر أزمة كبيرة.

من المثير للالتفات- أولا- صدور بيان مختلف في روحه ونهجه من مجلس النواب هذه المرة، لا من لجنة فرعية، يحاول تطويق الأزمة، قبل أن تتفاقم داعيا إلى: “ضرورة استيعاب جميع الآراء… لاختيار الأفضل بما يحقق المصلحة العامة”.. ومؤكدا على: “أن مجلس النواب ما زال يفتح أبوابه لمناقشة أية تعديلات قد يراها البعض ضرورية”.

من المثير للالتفات- ثانيا- أن اللجنة الفرعية رحبت بالتوجه الجديد، دون أن تعتذر عن التجاوزات التي ارتكبتها بحق الصحفيين وشخصنة الأزمة مع نقيبهم!

ومن المثير للالتفات- ثالثا- التساؤل بإلحاح عن مدى اتساق تعديلات مواد الحبس الاحتياطي والعدالة الجنائية مع توصيات لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة بالحوار الوطني.. وإذا ما كانت اللجنة البرلمانية قد نظرت فيها، أو أخذتها على محمل الجد!

بدت أزمة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، كأنها استنساخ لأزمة “الضرب بالأحذية”.

إنها كراهية الصحافة والصحفيين، أو أن يكون الحق في التعبير عن الرأي مكفولا لكافة المواطنين.

السؤال الأساسي هنا: أي دولة نريد؟.. دولة قانون وحريات عامة.. أم دولة قمع وترهيب؟

باليقين، فإن بيان مجلس النواب، الذي يدعو إلى الانفتاح على وجهات النظر الأخرى خطوة إيجابية، لكنها تظل قاصرة، ما لم يتسع إطارها العام إلى كافة القضايا والأزمات الخانقة.

“عصبية النظام وميله إلى العنف والتلويح به في مواجهة حرية الصحافة تعبير عن أزمة استنفاد شرعيته وزمانه، وأنه بات عبئا ثقيلا على ضرورات التغيير الديمقراطي الواسع، فالنظم الواثقة من نفسها ومن شعبها، تحاور وتبحث عن قواعد مشتركة، يمكن القبول بها، لا أن تهدد برفع الأحذية والضرب بها”– كما كتبت عام (2007) على صفحات جريدة “العربي”.

المعاني نفسها تستحق أن تقال الآن، وإلا فإن النتائج معروفة.

لسنوات طويلة بدا نظام “مبارك” مستعدا لدفع فاتورة حرية الصحافة وتحمل تكاليفها، باعتقاد أنها تساعد على تحسين صورة النظام وتخفف الضغوط الدولية عليه.

سرى اعتقاد واسع في أوساط السلطة، أن النظام هو أكثر المستفيدين من الحريات الصحفية، بظن أنها محدودة في صحف بعينها، وأن الصحافة القومية يمكن أن تضبط الإيقاع، غير أن تلك الصورة تبددت، فالصحافة القومية بدت وقتها كأفيال، تذهب إلى مقابرها، العوالم اختلفت مع ثورة المعلومات، واحتياجات المجتمع توسعت وتعقدت، ولم يعد ممكنا السيطرة عليها بالطرق التقليدية.

الحوار– مهما كان صاخبا وحادا– فإنه يجري بالعلن، لغته التغيير السلمي وقضيته الإصلاح السياسي والدستوري، ومادته قضايا الناس الحياتية.

قرب نهاية نظام “مبارك” قال الدكتور “محمود محيي الدين” وزير الاستثمار الأسبق في جلسة ودية ضمتنا بأحد فنادق القاهرة: “مشكلتنا في الإعلام”.. عندما علت الدهشة الوجوه، أخذ يشرح فكرته بقدر من التوسع.. فالإعلام الرسمي مقصّر، والإعلام المعارض والخاص أكثر تأثيرا، وأنه إذا توافرت الكفاءات المهنية في الصحف القومية؛ فإن الصورة يمكن أن تتغير، والرأي العام يمكن أن يقتنع.

قلت: “هناك قاعدة إعلامية تقول: أنت لا تقنع إلا بما هو مقنع”.. لكنه لم يكن مقتنعا، بأن السياسة المصرية غير مقنعة!

في حيرة نظام “مبارك” بين الانفتاح على الحريات الصحفية وأحاديث الأحذية، داهمته العواصف في “يناير” (2011).

لم تكن الحريات الصحفية والإعلامية المتسعة لحدود غير مسبوقة في سنوات “مبارك” الأخيرة منحة من أحد، ولا هدية مجانية هبطت على صالات التحرير واستديوهات الفضائيات.

كما لم تكن هي من أطاحت النظام في النهاية، فقد لقي مصيره بانسداد القنوات السياسية والاجتماعية، وإغلاق أبواب الأمل في أي إصلاح من داخله بالتزوير الفاضح للانتخابات النيابية (2010).

هذه حقيقة في أية قراءة للتاريخ، حتى لا نهدر دروسه.

حرية الصحافة من ضمانات الاستقرار والتصحيح، وتجنب الأزمات الكبرى التي قد تعصف بمستقبل البلد.

هذه حقيقة أخرى، لا يصح أن تغيب أبدا.