كنا نأمل أن يتبنى المشروع فلسفة مغايرة للقانون الحالي، فيما يتعلق بتعديلات الحبس الاحتياطي، خاصة بعد الإشارة إلى تزكية الرئيس السيسي، لمطالب مجلس أمناء الحوار الوطني في ذات الموضوع، والذي لا نعرف نصوص المقترحات التي توافق عليه، باستثناء ما أشارت إليه المواقع المختلفة في عناوين مختصرة أهمها، ما يخص مدد وبدائل الحبس الاحتياطي، وكذلك التعويض عن الحبس الاحتياطي في حال براءة المتهم.
وعند تصفحنا صفحات المشروع، سيصدم القارئ، بأن المشروع لم يتبن أي تعديلات جوهرية، تؤدي إلى التقليل من مبدأ الحبس الاحتياطي المطول، أو تعطي ضمانات، بألا تتجاوز النيابة العامة في توقيع هذا الأمر بشكل دائم. كل ما فعله المشروع، أنه نقل المنصوص عليه في القانون الحالي، مع إضافة باب خاص بالتعويض عن الحبس الاحتياطي، حسبما ما هو منصوص عليها في الدستور.
يتناول المشروع موضوع الحبس الاحتياطي في جزأين: الأول ضمن الباب الثالث “التحقيق بمعرفة النيابة العامة”، وفي الفصل السابع منه المعنون بـ “أمر الحبس” من المادة 112ـ 124 “، كما يتناوله في نهاية المشروع في الجانب الخاص بالتعويض عنه.
في هذا السياق، لم يأت مشروع قانون الاجراءات الجنائية بتعديلات إيجابية في تناول مواد الحبس الاحتياطي، باستثناء تقليل المدد في عقوبات الجنح والجنايات نسبيا، بالإضافة إلى قصر توقيع الحبس الاحتياطي على كون الواقعة جناية، أو جنحة معاقبا عليها بالحبس مدة، لا تقل عن سنة، بدلا من 3 أشهر في القانون الحالي.
وتشير المادة 112 من المشروع إلى إمكانية توقيع الحبس الاحتياطي في 5 حالات وهي: وجود الجريمة في حالة تلبس، الخشية من هروب المتهم، عدم وجود محل إقامة معروف للمتهم في مصر، خشية الإضرار بمصلحة التحقيق بالتأثير على المجني عليهم أو الشهود، أو العبث في الأدلة، أو بإجراء اتفاقات مع باقي الجناة لتغيير الحقيقة، أو طمس معالمها، والحالة الأخيرة توقي الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة.
كما أجاز المشروع توقيع الحبس الاحتياطي في كل الأحوال، إذا لم يكن له محل إقامة ثابت ومعلوم، وكانت الجريمة جناية أو جنحة معاقبا عليها بالحبس.
وهو ذات النص الموجود بالمادة 134 من القانون الحالي، والذي تم تعديله عام 2006، ولم يقم المشروع بوضع أي تعديل اضافي بوضع ضوابط على استخدام هذه الحالات، أو التقليل منها، وهو ما سيستمر معه اللجوء إلى توقيع هذا الإجراء، إذا وجدت أي حالة من هذه الحالات الخمس، وأغلب صياغة هذه الحالات تتصف بالعموم والنسبية، وبالتالي يمكن توقيع أمر الحبس الاحتياطي بسهولة مفرطة، ويبقى تقديرها راجعا لرجال النيابة العامة.
ـ من جهة أخرى، نص القانون على إمكانية توقيع تدابير بديلة للحبس الاحتياطي، ولكن تبقى سلطة توقيع هذه التدابير الواردة في المادة 113 من المشروع جوازية لعضو النيابة العامة، وليست وجوبية، إذا شاء اتبعها، وإذا لم يشأ قرر حبس المتهم احتياطيا، بالإضافة إلى أنه أبقى على ذات التدابير الواردة على سبيل الحصر، وهي إلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه أو موطنه، إلزام المتهم بتقديم نفسه لمقر الشرطة في أوقات محددة، حظر ارتياد أماكن محددة. وهي نفس التدابير المنصوص عليها في المادة 201 فقرة أولى من القانون الحالي.
ولم يسع المشروع لوضع تدابير إضافية بديلة للحبس الاحتياطي، كما أنه ليس في النص ما يحظر الجمع بين الإجراءين (الحبس الاحتياطي ثم التدابير البديلة)، حيث دأبت بعض قرارات النيابة العامة بعد الأمر بالحبس الاحتياطي لفترات طويلة، وضع المحبوس تحت تدبير “إلزام المتهم تقديم نفسه لمقر الشرطة في أوقات محددة”.
يلاحظ أنه في المواد الخاصة بالحبس الاحتياطي، انتزعت النيابة العامة صلاحيات قاضي التحقيق الواردة في المادة 143 من القانون الحالي.
ـ كما نصت المادة 122 من المشروع في حالة عدم انتهاء التحقيق ورأي عضو النيابة مد الحبس الاحتياطي، يجوز له عرض الأمر على قاضي محكمة الجنح المستأنفة؛ لتصدر أمرا بعد سماع أقوال النيابة العامة والمتهم، بمد مدة الحبس مددا متعاقبة، لا تزيد كل منها على 45 يوما.
كما أعطت المادة 116 من المشروع صلاحيات مطلقة لأعضاء النيابة العامة من درجة رئيس نيابة سلطة الإذن بأمر مسبب لمدة ثلاثين يوما، بضبط الخطابات والرسائل والبرقيات، في الجنايات المنصوص عليها في الأبواب الأول، والثاني، والثاني مكرر، والثالث، والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات الخاص بالجنايات والجنح المضرة بأمن الحكومة من جهة الخارج والداخل، المفرقعات، الرشوة، اختلاس المال العام والعدوان والغدر، ويجوز تجديد هذا الإذن مددا مماثلة!!
وبالرغم من أن المادة 122 من المشروع تقلل فترة الحبس الاحتياطي، بألا تجاوز مدة هذا الحبس في حالة التحقيق الابتدائي وسائر مراحل الدعوى الجنائية، ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للحرية، إلا أن التعديل لا يقلل من هذه المدد إلا بشكل محدود.
ويشير أستاذ القانون الجنائي د. محمود كبيش في ملاحظاته حول المشروع، أن هذا التعديل لم يأت بإضافات ذات شأن إلى ما هو مقرر في القانون الحالي منذ عام 2006، وما طرأ عليه من تعديلات، فالحدود القصوى للحبس احتياطيا موجودة في القانون الحالي، هي ثلث الحد الاقصى للعقوبة السالبة للحرية، بحيث لا تجاوز 6 أشهر في الجنح و8 أشهر في الجنايات، وسنتان، إذا كانت العقوبات المقررة للجريمة هي السجن المؤبد أو الإعدام، وبمقارنة النصين، يتضح أن التعديلات في هذا الجزء لم تكن ذات شأن بالمقارنة بالقانون الحالي، مما لا يستحق معه الترويج لهذا المشروع في هذا الخصوص.
ثانياـ استحدث المشروع نصا ينظم التعويض عن الحبس الاحتياطي في الباب الثاني من الكتاب السادس في المادة 523 في الحالات التالية:
1 ـ إذا كانت الواقعة محل الاتهام معاقب عليها بالغرامة أو جنحة معاقبا عليها بالحبس مدة تقل عن سنة، وكان للمتهم محل إقامة ثابت ومعلوم في مصر بمعنى أن الحبس الاحتياطي تم في حالة مخالفة للقانون.
2 ـ صدور أمر نهائي بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم صحة الواقعة.
3 ـ صدور حكم باب ببراءة المتهم من جميع لاتهامات المنسوبة إليه مبنيا على كون الواقعة غير معاقب عليها، أو غير صحيحة، أو لأي سبب آخر حالات البطلان أو التشكيك في صحة الاتهام أو أسباب الإباحة أو الإعفاء من العقاب أو العفو أو امتناع المسئولية.
وقد تم الإشارة إلى مبدا التعويض عن الحبس الاحتياطي، منذ التعديلات التي أدخلت على القانون في 2006 في المادة 312 مكرر التي أكدت على أن الدولة تعمل على كفالة مبدأ التعويض المادي عن الحبس الاحتياطي في الحالتين التي نص عليهما القانون، وهما صدور حكم بات ببراءة من سبق حبسه احتياطيا، أو صدور أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبله، وأكد عليه دستور 2014 في المادة 54.
ـ وهناك عدة ملاحظات حول هذا النص، نعتمد فيها على ملاحظات د. كبيش أهمها:
ـ أن الحالات التي حصر فيها نص المشروع استحقاق التعويض على الحبس الاحتياطي مستحيلة، ونادر توافرها من الناحية العلمية، مما يجعل هذا التنظيم غير ذي جدوى.
كما يلاحظ التناقض الذي تضمنه النص، فحالات الحبس الاحتياطي في جرائم، لا يجوز فيها قانونا الحبس الاحتياطي، نادرة للغاية.
ـ المشروع اشترط للتعويض في حالة الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، أن يكون هذا الأمر قد صدر لعدم صحة الواقعة، دون حالة أن الواقعة غير معاقب عليها قانونا، وهو ما يتناقض مع حالة صدور حكم بات بالبراءة، فقد نص على التعويض سواء (أكان الحكم مستندا لعدم صحة الواقعة أو لأن الواقعة غير معاقب عليها)، وهي تفرقة غير مفهومة بين النصين.
إن اشتراط كون الحكم البات بالبراءة صادرا لعدم صحة الواقعة أو عدم العقاب عليها، يجعل استحقاق التعويض شبه مستحيل؛ لأن الأحكام الجنائية غالبا تؤسس البراءة على مجرد التشكك في الاتهامات، وهو السبب المنصوص على استبعاده من التعويض إلى جانب أسباب أخرى للبراءة في نص المشروع.
ويصل الدكتور كبيش، أن هذا النص يجعل من التعويض عن الحبس الاحتياطي غير ذي جدوى من ناحية التطبيق العملي.
من ناحية عملية، فإن المشروع بشكله الحالي لا يمنع استمرار ظاهرة الحبس الاحتياطي المطول، ولم يضع حلا لمشكلة آلاف المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا، تتصل بحرية الرأي والتعبير، ولا ينتظر أن ينهي ظاهرة تدويرهم على قضايا مماثلة بذات الاتهامات تقريبا، ومن الوارد استمرار نفس هذه الممارسات وفقا لهذا القانون، باعتبار كل قضية منفصلة عن غيرها، خاصة مع هذا التوسع في دور النيابة العامة، وتقليص حقوق الدفاع والانتقاص من دور المحامين.
ولم يضع المشروع في الاعتبار توصيات القانونيين المصريين بالعمل على تقليص دور النيابة العامة، وتأكيد استقلالها عن وزارة العدل، واتباع نظام قاضي الحبس الاحتياطي وعشرات التوصيات التي كان قد أوردها مركز دام في دراسته الصادرة بـ 15 توصية، تمنع تحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة، الصادرة عام 2021.