في 15 سبتمبر 2024، خرج علينا بيان مجلس أمناء الحوار الوطني، ليشرح الموقف بشأن تداعيات مناقشة لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب التي اختتمت مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، وما به من مواد تتعلق بقضية الحبس الاحتياطي في 11 سبتمبر 2024، وعلاقة ما تم التوصل إليه في اختتام أعمال تلك اللجنة بمخرجات أو توصيات الحوار الوطني حول الحبس الاحتياطي، وهي المخرجات التي رفعت لرئيس الجمهورية عقب أيام معدودة من جلسات الحوار الوطني حول تلك القضية، والتي عقدت يوم 23 يوليو 2024.

وكان رئيس الجمهورية قد أرسل تلك المخرجات إلى الحكومة، بعد أن تلقاها بأقل من 48 ساعة، ليرفع عن ذاته أي مؤاخذة في تعطيل مخرجات الحوار، ويلقي بالقفاز في وجه الحكومة ومجلس النواب؛ ليتبين للكافة إلى أي حد، سيتعامل هؤلاء مع مخرجات الحوار الوطني في هذه القضية الجوهرية.

بالطبع ما حدث، هو أن الحكومة أرسلت لمجلس النواب تلك المخرجات بغرض التنفيذ، لأنه كان يُتصور أن تلك المخرجات سيكون التعامل معها، يتواءم مع مقام الرئاسة، فتنفذ إن لم يكن حفاظا على هذا المقام من الحكومة ومجلس النواب، فعلى أقل تقدير بموجب إدراك الغير بوجود علاقة خلل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لصالح الأولى، بحكم الدستور والقانون والممارسة والأمر الواقع. وبطبيعة الحال، فإن هذا التنفيذ مرده إلى أن هيكل العضوية في البرلمان يحكمه وجود نصف أعضاء البرلمان، ممن هم منتخبون وفق نظام القائمة المطلقة الشائه، والدال على وجود تزوير في إرادة الناخبين، بمنح الحزب الحاصل على 51% من الأصوات 100% من مقاعد البرلمان المخصصة للقائمة المطلقة. والمعلوم أن هذا النظام يعطي للسلطة السيطرة الكاملة على غالبية أعضاء البرلمان، فيجعل مدخلات البرلمان عبارة عن مجرد إجراء تمريري من مجلس النواب.

لكن على ما يبدو، أن الدولة العميقة لها تاريخ طويل في مصر، وهي قادرة على مراجعة القرارات التنفيذية، ولو كانت قرارات صادرة عن رئيس الجمهورية، وهنا المعني، مخرجاته التي صنعها الحوار الوطني حول الحبس الاحتياطي. يرتبط بذلك أن مجلس النواب في ظل تلك الحالة الموصوفة آنفًا، يتخذ قراراته بموجب ضغوط خارجية كثيرة، منها البيروقراطية المعنية بشؤون الأمن وغيره.

في بيان مجلس أمناء الحوار الوطني في اجتماعه يوم 15 سبتمبر، أشار إلى أنه ناقش في اجتماعه “ما ورد في مشروع القانون من مواد، ترتبط بملف الحبس الاحتياطي مقارنة، بما خلص إليه من توصيات، ووجد أن بعضا من هذه التوصيات لم ترد، بفلسفتها ومضمونها في مشروع القانون، على الرغم من ضرورتها وأهميتها للمعالجة الشاملة والمطلوبة لكل التفاصيل الأساسية لهذا الملف، وهو ما دفع مجلس الأمناء إلى إعادة صياغة ما رأى ضرورته من توصيات، لم ترد أو لم تكتمل في مشروع القانون، وسيقوم برفعها، بحسب القواعد التي تنظم الحوار الوطني منذ بدئه للسيد رئيس الجمهورية؛ ليتخذ سيادته فيها ما يراه”. بعبارة أكثر وضوحا وبعيده عن أي غموض، فإن الحوار الوطني سيعيد إرسال ما لم يأخذه البرلمان بشأن الحبس الاحتياطي لرئيس الجمهورية، وهو هنا كما لو كان يتوجه بشكوى للرئيس من السلوك غير المبرر من البرلمان.

من هنا يُتوقع وبحكم المقارنة بين ما ورد من توصيات أو مخرجات الحوار حول الحبس الاحتياطي، وبين ما ورد في مشروع القانون قبل عرضه على الجلسة العامة لمجلس النواب، أن تتضمن الرسالة القادمة التي سترفع للرئيس عبد الفتاح السيسي، ما تجاهله مجلس النواب، وهو ما يلي:

1- بشأن مدد الحبس الاحتياطي، ذكرت توصيات الحوار خمسة بدائل، لو نحينا البديل الأول جانبا، لوجدنا أن المشروع تجاهل الأربعة بدائل الأخرى، وكلها تقلل بشكل واضح وكبير من مدة الحبس الاحتياطي في الجنح والجنايات العادية والجنايات التي تصل عقوبتها إلى المؤبد أو الإعدام .

2- فيما يتعلق بالمراقبة الإلكترونية التي اقتُرحت بمخرجات الحوار كبديل للحبس الاحتياطي، (وهو بديل دولي معروف في الجرائم في النظم القانونية في البلدان المتمدينة التي تحترم حقوق الإنسان).. لم يشر مشروع القانون الذي اعتمدته لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية إلى تلك الوسيلة المهمة، إمعانا في بقاء إذلال المواطن بحبسه وامتهان كرامته. وقد بررت اللجنة هذا التجاهل، مشيرة إلى أن مسألة المراقبة الإلكترونية جارى دراستها؛ لأنها تحتاج لبنية رقمية.. جدير بالذكر أن هذا الموضوع يذكرنا بتلكؤ نظام مبارك لعدم الأخذ بقاعدة بيانات الرقم القومي في الانتخابات العامة، ولكن بعدما وقعت أحداث ٢٥ يناير 2011، أخذ بتلك القاعدة بسهولة ويسر، بعدما تبين أن الأمر لم يتكلف وقتئذ سوى ٢٠ مليون جنيه.

٣- بالنسبة لتعويض الأشخاص الذين تم تبرئتهم بعد الحبس الاحتياطي، أوردت توصيات الحوار خمسة مقترحات فرعية، لم يؤخذ إلا بالمقترح الثاني، وهو أخفها وأقلها أهمية، وهو خاص بإلزام النيابة العامة النشر في الصحف للإعلان عن تبرئة المتهم. أما المقترحات الأربعة الأخرى، والمتعلقة بحجم التعويض أو المطالبة بتعويض عن كل يوم حبس، فقد تم تجاهلها كلية، وهو تجاهل يجعل هناك شكا كبيرا في جدية النيابة في التعامل مع مسألة الحبس الاحتياطي.

٤- في شأن التدابير المصاحبة للحبس، والتالية للإفراج بعد تبرئه المتهمين، هناك المقترح الثاني والخاص بالمنع من السفر والادراج بقوائم الوصول والتحفظ على الأموال. وهذا المقترح يقول بإمكانية ذلك كله وفق حكم قضائي مسبب، لكن مشروع القانون أعطى للنائب العام، ومن يفوضه إمكانية ذلك، وهو أمر يجعل الثقة في وضع تنظيم جديد للحبس الاحتياطي، يحترم آدمية الناس محل شك كبير، بسبب السوابق التي تثبت تشدد النيابة في معاقبة المفرج عنهم بعقوبة أخرى بعد عقوبة الحبس.

٥- في شأن ما ورد في التقرير المرسل لرئيس الجمهورية تحت بند المقارن بعنوان “توصيات أخرى”. يلاحظ ما يلي:-

أ- التوصية الثانية الخاصة، بضرورة أن تقوم النيابة بإعداد تقرير نصف سنوي، لحالات وملفات الحبس الاحتياطي، وهي توصية تهدف إلى تأكيد اهتمام النيابة بآدمية البشر، وكذلك إعلام الناس بأسباب ومدة الحبس ووقته وغيرها من بيانات. هذه التوصية لم يأخذ مشروع قانون الإجراءات الجنائية بها على الإطلاق.

ب- التوصية السابعة الخاصة بضرورة العمل على إشهار جمعيات أهلية، تسعى إلى دمج وتأهيل المفرج عنهم. هذه التوصية، لم يأخذ بها مشروع القانون، وهي غير متواجدة في أي تشريع آخر.

ج- التوصية التاسعة، المتصلة بمعالجة تداعيات الحبس، وأخصها ما يتعلق بإدراج أسماء المحبوسين احتياطيا، بمن فيهم من تمت تبرئتهم، على قوائم الأمن العام والتسجيل الجنائي، والتي يترتب عليها تداعيات تتعلق بفرصهم المجتمعية ومستقبلهم. هذه التوصية غير متضمنة في المشروع ولا أي مشروع ذي صلة.

هكذا سيكون على الأرجح موقف الحوار الوطني، وغيره، لن يفلح أي جهد لتغيير سلوك البرلمان، الذي يعد في النظم الليبرالية والمتمدينة أداة لصيانة حقوق الإنسان، وليس المزايدة على الأمن لإجهاض تلك الحقوق.