أطلقت الحكومة في الآونة الأخيرة مبادرة جديدة بعنوان بداية، بهدف تنفيذ استراتيجيتها للتنمية البشرية لبناء الإنسان المصري.
وتلك بادرة تبدو طموحة في ظل التحديات الهائلة، والمخاطر التي يواجهها المواطن المصري الآن.
وذلك ما يُدخلنا للبحث في عناصر البناء المطلوبة في المدى العاجل والمتوسط والطويل. وما هي نوعية الإنسان الذي نريد بناءه؟
التنمية البشرية والصحة
تعد مؤشرات التنمية البشرية من المؤشرات الأساسية، التي تستخدم في قياس تقدم الأمم، وبناء الإنسان فيها، ووضعية العدالة الاجتماعية التي تحفز ذلك البناء.
وتحتل مخرجات النظم الصحية المؤشرات الأهم في ذلك مثل معدلات وفيات الأمهات الحوامل، ومعدلات وفيات الرضع والأطفال حديثي الولادة، ومعدلات سنوات العمر المعاشة دون عجز، فمؤشرات التنمية البشرية، هي الجانب الأكبر لبناء الإنسان، إلى جانب المحددات الاجتماعية للصحة، مثل إتاحة مياه الشرب النقية والصرف الصحي الآمن، والغذاء المتوازن النظيف، والسكن الملائم، والتعليم الأساسي، وغيرها من المحددات المرتبطة بالبيئة والسلوك الصحي بشكل عام. مما يجعل الصحة كمفهوم شامل لبناء الإنسان، مقياسا حيويا في التقارير الدورية للتنمية البشرية العالمية التي ترصد خطوات هذا البناء المنشود.
ولذلك، تعد العلاقة بين الصحة والتنمية البشرية، علاقة عضوية تبادلية، في جوانبها الإيجابية والسلبية، حيث تعكس مخرجات الحالة الصحية للمواطنين، وتحررهم من عبء المرض عموما البدني والنفسي، مقياسا أساسيا؛ لتحسين انتاجيتهم وجودة نمط حياتهم، ومستوى وعيهم ومعيشتهم .
في هذا السياق، لعلنا نرى العديد من الأمثلة لدول حققت نجاحات ملحوظة في تحقيق العدالة الاجتماعية في الصحة، على وجه الخصوص لبناء الإنسان.
ففي رواندا مثلا، وضعتها الإدارة السياسية على رأس اهتماماتها، فهي كما وصفتها منظمة الصحة العالمية مدخلا أساسيا لسلامهم الاجتماعي وأمنهم القومي.
وبعد الحروب والمذابح العرقية التي شهدتها رواندا التي فقدت عُشر شعبها في مذابح عنصرية عام 1994، كان على الدولة الجديدة مواجهة شعب يعاني من المرض، ومجتمع في قمة المعاناة الإنسانية والاقتصادية، وبنية تحتية مدمرة بالكامل وأكثر من 70% تحت خط الفقر.
وأصبح دور الدولة هو توفير حياة آمنة مستقرة للمواطنين جميعا، من خلال صحة جيدة، وتعليم متميز، وأصبحت سياسة الحكومة تؤكد على توفير هذه الحياة، كأولوية للمواطنين وعلى أن الصحة حق أساسي للمواطن ولأسرته، وذلك ما يجعله يشعر، أنه منتم لهذا المجتمع وهذه الدولة، ومن الصعب عليه التخلي عن هذه الحقوق، بدلا من اللجوء إلى اللامبالاة أو الفوضي أو الأفكار المتطرفة التي تتغذى على الفقر والمرض والجهل.
ومن هذا المنظور، تصبح قضية العدالة الاجتماعية وتوفير سبل الحياة الأساسية، وفق ما حدده عالم النفس الشهير إبراهام ماسلو، في هرمه الشهير والمعروف لكل مواطن، دون تمييز أهم وأقوى دعائم السلم الاجتماعي والنمو والانتماء والاستقرار الحقيقي.
وتكلفة عدم العمل بهذا المنظور باهظة على الأفراد وعلى الشعوب، وبالتأكيد على الحكومات أيضا.
القيم الأخلاقية للتنمية وبناء الإنسان
المواقف التي تتحدث حول، ما يتوجب على المجتمع والسلطة فعله لدفع التنمية البشرية، وبناء الإنسان غالبا، ما تنظر إلى القيم الأخلاقية التي يروج لها تعليميا وثقافيا وإعلاميا؛ لتصبح قواعد راسخة في وجدان الفرد، لا يحيد عنها، هامة جدا، رغم من أن البعض من دعاة النمو الاقتصادي الصرف وأهميته، وأن ذلك أمر تقني بحت، لا يشمل القيم “رجال الاقتصاد مثلا” غالبا، ما يدافعون عن مفهوم، لا يهتم بأمر الأخلاقيات، إلا إذا كانت فقط تتعلق بكفاءة الأداء الاقتصادي.
ولكن أخلاقيا يكون ذلك “كعب أخيل”، إذا افترضنا تعارض الكفاءة مع العدالة والإنصاف، وهذا إغفال لبناء الإنسان، يتبنى مقاربة مختلفة، في أي خطة للتنمية البشرية، تتطلب تحليلا وخلفية أخلاقية، تتبنى فكرا واضحا، تدعو إليه.
ففي هذا المجال الملتبس، نجد أنه ثمة ثلاثة اتجاهات أخلاقية، أو رؤى كبرى كأساس، تُبنى عليه استراتيجيات بناء الإنسان، وهي “النفعية الموضوعية” و”الليبرالية المساواتية” و”المجتمعية الشاملة”، وعلينا أن نحدد أي الاتجاهات تحكمنا.
فالمذهب الأول النفعية الموضوعية، يقول إننا يجب أن نحاكم السياسة بناء على نتائجها؛ فالنفعية تعطي قيمة للنتائج بواسطة فحص آثار قرار ما على المجموع الكلي، على رفاهية الفرد في المجتمع، وهذا المنظور الأخلاقي يمكن أن يخلق دوافع عديدة لبناء الإنسان، شرط عدم التخلي عن الإنصاف، وآليات الدعم والحد من الفساد.
المذهب الثاني، الليبرالية المساواتية بكل ألوان طيفها، وهي تركز على الحقوق والفرص المتساوية، وهذه الرؤية إذ استندت على قاعدة المساواة، وعدم التمييز وكبح الفساد، تستطيع أن تلعب دورا حيويا مهما في الجدل الدائر في بناء الإنسان والتنمية المستدامة؛ فالحديث المتكرر أن المواطنين يمتلكون حقا في التعليم والصحة، دون تمييز في الواقع يعكس اهتماما ليبراليا مساوئيا أيضا.
وربما نسمي هذا النزوع الأخلاقي بتبسيط شديد نزوع الديموقراطية الاجتماعية.
أما المنظور الثالث، وهو النزعة المجتمعية الشاملة، فهي نزعة لها تاريخ طويل في بلاد، مثل الصين وكوبا والاتحاد السوفياتي السابق، وهي تقرر أن المهم هو نوع المجتمع الذي تساعد السياسات العامة على خلقه ونوع الأفراد الذين يعملون فيه.
وفي هذه الرؤية، تلتزم الدولة والمجتمعات برعاية أفرادها من أجل المساهمة والتشارك، فيما يراه المجتمع فضيلة وسلوك سليم، وفي المقابل عليه أن يتخلى تماما عن حريته الشخصية.
تلك المدارس الثلاث أمامنا وعلينا، أن نحدد في أي الاتجاهات سنسير؟
في اتجاه بناء الإنسان لتحقيق استراتيجيتنا بوضوح، أما التضارب بين المدارس الثلاث، فلن يساعد على خلق تنمية بشرية مستدامة، ولن يؤدي إلا إلى إنسان مشوش بين اتجاهات متعددة، ويترك فريسة للأفكار المتطرفة والمسارات العشوائية التي تجعله يكتفي من الحياة بالبحث عن تلبية حاجاته البدائية في قادة هرم ماسلو فقط.
مثله مثل باقي المخلوقات، التردد بين طموح أو رغبة في تخطي حاجز البحث عن الرزق أو لقمة العيش، ولذلك علينا تحديد أي القيم الأخلاقية التي يجب أن تستند إليها استراتيجيتنا لبناء الإنسان، ومن هنا نبدأ.