بعد ثمانية عشر عاما من حرب (2006)، تعاود الأسئلة الكبرى طرح نفسها بنفس درجة الأسى عن الموقف المصري، مسئوليته المفترضة ومواطن الخلل فيه.
في قصر بعبدا، وأمام رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق “أميل لحود”، استعاد الشاعر المصري “أحمد عبد المعطي حجازي” بيتا بليغا لشاعر لبنان الراحل “سعيد عقل”، يلخص تصدع الدور المصري وتداعياته.
“إن لم نزن مصر وزنا حقا سال الدم على الضمير
ويبقى أن يسيل الدم”.
كان ذلك بيت شعر تجاوزت حكمته، التي جرت بفصاحة اللغة، مشاعر صاحبه إلى حسابات القوة وحقائقها الثابتة في هذا الإقليم المبتلى بالصراعات والحروب.
المستلفت أنها جرت بقريحة شاعر صدم كثيرون فيه، عندما أخذ يدعو، إلى ما أسماه “اللغة اللبنانية”، كأن لها أبجدية خاصة، متنكرا للانتماء العربي للبنان، ومستعدا للمضي في التطبيع مع إسرائيل.
بدت الصدمة كبيرة بعمق تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية، خاصة أنه شاعر كبير شدت “فيروز” بأعذب قصائده، التي هفت قلوب العرب إليها.
لم يكن هناك شك، أن الرئاسة المصرية لا تزن مصر وزنا حقا، ولا تدرك قيمة البلد الذي تحكمه، فسال الدم على الضمير، ثم سال الدم في عواصم عربية واحدة تلو الأخرى.
كان ذلك مدخلا شاعريا صادقا في رسالته رغم أجواء الحرب التي تخيم على العاصمة اللبنانية.
في الصباح الباكر من ذلك اليوم الثلاثاء (8) أغسطس (2006)، أخذت (69) شخصية رسمية وشعبية، بينهم ثلاثة وزراء ورؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والخاصة، وفنانون ومثقفون وممثلو أحزاب ونقباء مهنيون، بالتجمع في مطار القاهرة الدولي؛ استعدادا للسفر على طائرة عسكرية مصرية إلى بيروت، بمرافقة طائرتين عسكريتين محملتين بمواد إغاثة غذائية ودوائية عاجلة.
طوال الرحلة التي استغرقت يوما واحدا ذهابا وإيابا، أخذ المسئولون المصريون لعشرات المرات، يؤكدون أن تشكيل الوفد الرسمي والشعبي، يعبر عن الإجماع المصري في دعم لبنان وصموده.
جرى اللقاء الأول في قصر بعبدا الرئاسي، وتلاه لقاءان آخران مع رئيس المجلس النيابي “نبيه برى”، ورئيس الوزراء الأسبق “فؤاد السنيورة”.
الرئاسات اللبنانية الثلاث، أبدوا حرصا مماثلا على تأكيد المعنى نفسه.
عند استقبال “السنيورة” للوفد المصري قال، إن هذه الزيارة أهم من اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت! وأن رأس لبنان قد ارتفع وطال.
لم تكن تلك محض مجاملة.
حالت الاعتبارات الدبلوماسية الرئاسية اللبنانية الثلاث من التطرق إلى أية معاتبات للمواقف الرسمية، فلبنان المحاصر في حاجة إلى أي دعم مستطاع وممكن من أية دولة عربية، بالخصوص مصر، ولبنان المحاصر بحاجة إلى تفكيك الغطاء العربي للعدوان، وتوفير حماية عربية بأية درجة.
كانت تلك اعتبارات بلد في حالة حرب.
بدا لبنان في حاجة إلى أي دعم عربي، بل كان يتلهف عليه لتفكيك الغطاء العربي للعدوان على لبنان.
شيء من ذلك يحتاجه لبنان الآن، أمل أو بعض أمل في مواقف أكثر جدية، وحسما لا مجرد بيانات في فراغ المؤتمرات الصحفية.
مع ارتفاع منسوب الغضب الشعبي، وانهيار صورة النظام المصري، لم يكن هناك مفر من رفع السقف السياسي المنخفض للغاية، بما لا يليق ببلد في حجم مصر.
هكذا ولدت فكرة، أن يذهب وفد شعبي ورسمي إلى العاصمة اللبنانية أثناء الحرب لإبداء التضامن.
كانت الإغاثات– في حد ذاتها– مطلوبة، بل كان هناك إلحاح لبناني عليها، فالمخزون النفطي يكاد ينفد، كما أنه قد تبدت مشكلة ضاغطة– مع الحصار الإسرائيلي المشدد على العاصمة بيروت– في المواد الغذائية والدوائية.
قال لي وقتها الدبلوماسي الشاب “مصطفى علوي”، الذي تقلد منصب السفير المصري بالعاصمة اللبنانية فيما بعد: “الحصار هنا أخطر من الطائرات”.
هذا ما تحتاجه بيروت الآن من عالمها العربي، القاهرة تحديدا، غير أن الإغاثات وحدها ليست كافية لملء فراغ الدور السياسي، الذي كان يتوجب عليه العمل على رفع الحصار وإيقاف إطلاق النار، وحماية البنية الداخلية اللبنانية المهددة.
في بيروت المحاصرة عام (2006)، وأنت تطل على شوارعها شبه الخالية؛ تدرك معنى تهديد زعيم “حزب الله” “حسن نصر الله” بقصف تل أبيب عاصمة إسرائيل، إذا ما قصفت الأخيرة عاصمة بلاده.
إذا ما طرح سؤال: لماذا لا تقصف تل أبيب، فيما بيروت تقصف يوميا؟ فقد كانت الإجابة ماثلة أمامنا.
انصب القصف الإسرائيلي إلى درجة التهديم الكامل على الضاحية الجنوبية، معقل الحزب أما عمق العاصمة بجسوره وشوارعه وبيوته، فلم يصبها أذى كبير، وبقت على حالها الذي كنا نعرفه قبل حرب (2006). كأن “نصر الله” أراد– بالضبط– أن يحمي عمق بيروت من التدمير باستخدام سلاح الردع.
كانت تلك سياسة منضبطة قصدت الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية، وتخفيف الضغوط على الشركاء في الوطن أفضت إلى موافقة، دون تحفظ على ما أعلنته الحكومة من بنود لحل الأزمة.
هكذا وافق “حزب الله” على نشر قوات الجيش اللبناني في الجنوب، لنزع أية ذرائع في الداخل اللبناني لإثارة فتن داخلية، حتى لا تحصد إسرائيل بالفتن، ما عجزت عن أن تحصده بالسلاح.
شيء مقارب يحدث الآن، الضاحية تتعرض للقصف المتصل استهدافا لقيادات وكوادر المقاومة، دون أن تنال العاصمة أية ضربات.
إنه نوع من الردع المتبادل، حتى لا تفلت الحسابات السارية إلى حرب شاملة.
فيما هو مختلف هذه المرة نزوح أعداد كبيرة من الجنوب إلى الداخل.
كان استهداف المدنيين مقصودا في مناطق عديدة من لبنان؛ لتجفيف البيئة الحاضنة وتعميق الشروخ الطائفية ببنية المجتمع، غير أنه لم تنعكس حملات التشهير والتحريض بشبكات التواصل الاجتماعي على مستويات التضامن اللبناني الداخلي.
عبر الزعيم الدرزي “وليد جنبلاط” عن درجة عالية من التضامن، رغم أية مشاحنات سياسية سابقة بعبارة لافتة: “مهمتي الوحيدة حسن استضافة النازحين وتوفير أماكن إقامة لائقة في جبل لبنان”.
في حرب (2006)، أمام الموت الزاحف على المواطنين جميعا دون تفرقة، بدا أن تخفيض الحديث عن “حزب الله” مقصود.
جرى نسبة الفضل الأول في الصمود إلى الشعب اللبناني ووحدته.
كان ذلك تعبيرا مبكرا عن مزالق الحياة السياسية اللبنانية المحتملة بعد انقضاء الحرب.
كان النصر أكبر من لبنان. بتعبير الكاتب الراحل “طلال سلمان” رئيس تحرير صحيفة “السفير”.
لم يكن يصح أن يحمل أحد- بالأماني والإفراط فيها- “حزب الله” بأكثر مما تطيقه حقائق القوة والجغرافيا والسكان.
فهو طرف فاعل واصيل في معادلة بلد صغير، يفتقد إلى التماسك والعمق الجغرافي والسكاني، وأقصى ما يستطيعه، أن يحبط العدوان عليه، وأن يعطى النموذج والقدوة للعرب الآخرين، وأن يثبت أن هزيمة إسرائيل ممكنة.
كانت تلك حقيقة تأكدت في عملية السابع من أكتوبر (2023).
اكتسبت حرب (2006) قيمتها من سعيها لتحرير الأراضي اللبنانية.
هذه المرة فإنها حرب إسناد لغزة، التي يجري بحقها أبشع جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
يحسب للمقاومة اللبنانية شرف الدفاع عن القضية الفلسطينية، حتى لا تصفى نهائيا.
وقفت وحدها تقريبا دون أي غطاء عربي.
رغم الضربات الاستخباراتية القاسية، التي تعرضت لها إلا أنها استطاعت أن تمتص تأثيراتها السلبية على الروح العامة والتماسك الداخلي بوقت قياسي.
ثم أثبتت قدرتها على انتاج القيادات تحت النار.
استخدمت مخزونها الصاروخي في توجيه ضربات محكمة لمواقع عسكرية إسرائيلية، ووضع مدينة حيفا تحت فوهة النيران مما أجبر أعداد كبيرة من الإسرائيليين على النزوح.
بحقائق توازن القوة ارتفعت أصوات في واشنطن تدعو إلى التهدئة.
حسب السفير اليميني المتطرف “داني دانون” ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، فإن بلاده منفتحة على أية اقتراحات للتهدئة على الجبهة اللبنانية.
الدعوة نفسها رددها البيت الأبيض وأصوات أوروبية أخرى، كما لو كانت أوركسترا والهدف الرئيسي، أن يتوقف “حزب الله” عن إسناد غزة والمقاومة فيها، وهو ما يرفضه مطلقا.
هذا هو صلب الحرب الجارية الآن، والاختبار الحقيقي في صراع الإرادات والمصائر.