ينظر سيد محمود، لشباكه في وقت الغروب بتمعنٍ شديد، لا يبحث فيها عن الخيوط المتقطعة لمعالجتها كالمعتاد، فمخاوفه أصبحت أكبر بكثير من هروب سمكة أو حتى ثلاث، ولكن اختفاء خبرات “البحر العذب” بشكل كامل مع بد تخزين المياه في سد النهضة بإثيوبيا.
للصياد العجوز، قصة مع الجفاف يحفظها منذ نعومة أظافره، ومحاولته موازنة أقدامه الصغيرة على مركب والده الخشبي الصغير، عايش شهورًا جفت مياه النيل قبل بناء السد العالي، ومرور البعض بماشيتهم من بعض الأفرع الجانبية للنهر، بعدما جفت، ونزوح عشرات الصيادين في رحلة هجرة لم يعودوا منها.
تبدو مخاوف الصياد المخضرم، متسقة مع واقع تعيشه قرى الصيد على ضفاف بحيرة توركانا الكينية، التي تضررت من سد بنته إثيوبيا أيضًا عن نهر ‘أومو”، وتسبب في نقص حادٍ بالثروة السمكية بعد هبوط منسوب المياه بحوالي مترين في أكبر بحيرة صحراوية في العالم، ويفكر بعضهم في النزوح تاركين أماكن استوطنوها طوال قرون.
تأثيرات سد النهضة
يتفق جميع خبراء الري والثروة السمكية على أن السد الإثيوبي الضخم، سيحمل تأثيرات عنيفة على خيرات النيل، ولا يخلو من تهديد للخطط الحكومية الرامية لتحقيق الاكتفاء الذاتي بعد تغطية الإنتاج المحلي بنحو ٩٦٪ من الاحتياجات.
بحيرة ناصر تنتج 25 ألف طن تعادل 1.5% من إجمالي إنتاج مصر
تحذر دراسة لمعهد التخطيط القومي، الذراع البحثية لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، من اندثار ١٢ نوعًا من الأسماك النيلية الدارجة بمصر، بفعل نقص المياه وزيادة مستوى الملوحة في النيل، التي تتراوح حاليًا بين ٢٠٠ جزء في المليون في أسوان، و٥٠٠ جزء في القاهرة والدلتا.
تبدو التوقعات متشائمة إزاء مستقبل الإنتاج السمكي بمصر، التي تنتج قرابة ١.٩ مليون طن سمك، 75٪ منها من المياه العذبة، بقيمة تقدر بأكثر من 28 مليار جنيه، كما تحتل المرتبة الأولى إفريقيا والسادسة عالميًا في الاستزراع السمكي.
يقول الخبراء، إن تأثيرات السد ستتوقف على الجفاف وموسم تساقط الأمطار على الهضبة الإثيوبية، لكن لن يقل ضرره عن فقدان مصر إنتاجها السمكي من النيل بجانب إنتاج حقول الأرز، وحوالي 30% من إجمالي المزارع السمكية المعتمدة على مياه الترع، وإنتاج بحيرة ناصر.
إحصاءات رسميّة
ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن المزارع السمكية تحتل المرتبة الأولى من حيث الإنتاج بنسبة 80.1%، تليها البحيرات بنسبة 10.1٪، ثم الإنتاج بالمياه البحرية بنسبة 5٫4٪، فالمياه العذبة بنسبة 3٫8٪، وحقول الأرز بنسبة 0.6٪ من إجمالي الإنتاج السمكي ويبلغ إنتاج الأسماك بالمزارع السمكية 1.6 مليون طن، 70% منها تعتمد على مياه الصرف المعالج، والباقي على مياه النيل.
وتعتبر بحيرة ناصر، تنتج نحو 25 ألف طن تعادل 1.5% من إجمالي إنتاج مصر من أجود أنواع الأسماك المصرية وجزء كبير منها لصالح التصدير، المتضرر الأول من السد الإثيوبي، مع تراجع الكميات التي تنتجها وتواجد كميات ضخمة من التماسيح النيلية يقدر عددها بنحو 30 ألف تمساح.
اختفاء 33 نوعًا من الأسماك التي تعيش بالنيل
“رزقي يعتمد عليهما”.. بتلك العبارة يمسك الصياد أحمد شلبي بكفر الزيات في الغربية بسمكتين من البلطي بقوة خشية هروبهما فهما يمثلان خمس حصاد اليوم، يبدي الرجل الذي صبغته الشمس بالأسمر وتشقق وجه ليشبه القنوات المائية همومه، فالإنتاج يتناقص باستمرار في السنوات العشر الأخيرة.
لا يعرف الرجل كثيرًا عن سد النهضة، فالواقع العملي الذي يعيشه يؤكد أن الأسماك تقل باستمرار في العشرين عامًا الأخيرة، بسبب التلوث، وأصبحت بعض الأنواع، مثل:قشر البياض، والرعاش، والشال، والمبروكة نادرة الوجود، ولم يعد متوافرًا فيه النيل سوى البلطي النيلي الذي يقدسه، فهو صديقه اليومي الذي لا يضل طريقه إلى شباكه يومًا.
انقراض الأسماك
ووفقًا لدراسات حكومية، اختفى 33 نوعًا من الأسماك التي تعيش بالني، وهناك 30 نوعًا أخرى في طريقها للاختفاء مع زيادة نسب التلوث في المياه، حال الانتهاء من بناء السد الإثيوبي.
لا تتحمل نوعيات البلطي المصرية درجات الملوحة المرتفعة وتقل قدرتها على التكاثر، كلما زادت تركيزات الصوديوم فالبلطي النيلي يمكنه تحمل الملوحة حتى 25 جزءًا من الملون، والحساني الأرزق تستطيع تحمل الملوحة حتى 40 جزءًا المليون، أما الجليلي الأبيض، فيتحمل الملوحة حتى 30 جزءًا من المليون.
لم يعد امتلاك أسطول متطور للصيد في المياه المالحة رفاهية
ويمثل البلطي عصب الثروة السمكية المصرية، باعتبارها تمثل ٦٠٪ من الإنتاج القومي بعائد يقدر بنحو ٢٢ مليار جنيه، ومن المتوقع – وفق تقديرات خبراء مستقلون – فإن العدد مهدد بالتراجع بقوة خلال 5 سنوات في نحو 9.5 ألف وحدة صيد نيلية يعمل بها نحو 28 ألف عامل، كما سيتضرر قطاع “استاكوزا” المياه العذبة إليها والتي يبلغ إنتاجها 7616 طنًا تعمل عليها 5 مصانع باستثمارات تتخطى نصف مليار جنيه.
أسطول صيد
يقول محمد عثمان، الرئيس السابق للهيئة المصرية لتنمية الثروة السمكية، إن السد سيؤثر على المخزون السمكي في بحيرة ناصر التي تعادل 1.5 في المئة إنتاج الثروة السمكية، وجزء من الاستزراع المعتمد على مياه الري الزراعي الذي يعادل 30% من إجمالي المزارع السمكية، لكن الباقي يعتمد على مياه الصرف المعاد معالجتها.
لم يعد امتلاك أسطول متطور للصيد في المياه المالحة رفاهية، بل ضرورة لهيكلة أنماط المعيشة في القرى التي تعتمد على الصيد النيلي، مع تغيير طريقة الاستزراع السمكي المعتادة في الأقفاص، إلى مزارع متطورة تعتمد على تكنولوجيا تنقية المياه وقياسات الأكسجين والملوحة، فمحافظة كفر الشيخ التي تحتل المرتبة الأولى في إنتاج السمك بمصر لا تضم سوى 229 مركبًا آليًا من أصل قرابة 11 ألف مركب تعمل بالصيد.
توقعات بارتفاع في أسعار الأسماك بنسبة تعادل 25% خلال السنوات الخمس القادمة
ووفقًا لـ”عثمان” فإن الصيد من البحرين الأبيض الأحمر يوفران 330 ألف طن سمك سنويًا بنسبة 16.2% من إنتاج الأسماك، لكن مصر توسعت في المزارع السمكية البحرية وليس العذبة خلال السنوات الأخيرة، سواء في منطقة القناة أو كفر الشيخ.
أنشأت الحكومة مزارع سمكية في بورسعيد تضم 4 آلاف حوض لإنتاج الزريعة على مساحة 19 ألف فدان، ومزرعة أخرى ضخمة في بركة غليون بكفر الشيخ على مساحة 4 آلاف فدان تضم نحو 1400 حوض سمكي.
الطبقات الفقيرة
ويقول الخبير الاقتصادي نادي عزام، إن المشكلة الأساسية ستكمن في تضرر الطبقات الفقيرة سواء من المستهلكين الذين يعتمدون على الأسماك الرخيصة كالبلطي مصدر أساسي للبروتين وسيتضررون من الارتفاع المتوقع في أسعارها، أو الطبقات العاملة في الصيد وتقدر بعشرات الآلاف وأعمار بعضهم كبيرة لا تمكنهم من تغيير مهنتهم.
وتمثل الأسماك النيل ومزارعه تمثل الأساس لاحتياجات الطبقات الفقيرة ـــــــ حتى رغم ارتفاع أسعاره بوتيرة متسارعة في السنوات الأخيرة، فتلك الطبقات لا تستطيع تحمل شراء البوري الذي يعتبر أرخص الأنواع البحرية ــ بسعر لا يقل عن 45 جنيهًا للكيلو الواحد.
وتدور التوقعات بارتفاع في أسعار الأسماك بنسبة تعادل 25% خلال السنوات الخمس القادمة حال عدم توفير الدولة كميات بديلة من الأسماك المجمدة المستوردة من الخارج وأشهرها محليًا أسماك “السنجاري”.
لكن تدور مخاوف من تضرر قطاع الصيد البحري بأكمله، بخطر آخر يتعلق بارتفاع درجات الحرارة، التى أدت لهجرة الأسماك لأعماق أبعد من متناول الصيادين بمصر، مما قد يحرمهم من مصادر رزقهم، ويدفع بكثيرين إلى الهجرة غير الشرعية، في ظل امتلاكهم خبرة في كيفية الوصول لأوروبا.
ويطالب خبراء الثروة السمكية والري بإدخال أصناف جديدة من الأسماك لديها قدرة على تحمل التغيرات التي ستحدث في المياه العذبة المصرية خاصة البلطي الموزمبيقي، خاصة في محافظات مثل كفر الشيخ التي تنتح ما يعادل من ثلث إنتاج مصر من الأسماك بسبب كميات الأراضي غير القابلة للزراعة التي تضمها وحولها أصحابها منذ عشرات السنوات إلى مزارع سمكية.