يسجل سبتمبر الحالي مرور ٥٠ عاما، على الإطاحة بالحكم الإمبرطوري الإثيوبي، وتأسيس جمهورية حاولت، وما تزال بناء الدولة الوطنية الإثيوبية على نحو يحقق استقرارا داخليا وقدرة على التنمية تحت مظلة حجم سكاني كبير.
ويمكن القول، إن مسيرة التأسيس الإثيوبية واجهت، وما تزال تحديات هيكليلة مرتبطة بالتكوين الإثيوبي المنقسم، والذي لم يجد بعد صيغة مستقرة ومتوافق عليها، تحقق استقرارا مستداما ، وذلك على الرغم مما تشكله إثيوبيا من وزن، وأثر في إقليم القرن الإفريقي، شكله إسناد أمريكي مباشر قبل عقدين، يبدو أنه يتراجع حاليا، بعد قرار صدر مؤخرا عن الرئيس الأمريكي بايدن، بتمديد العقوبات الأمريكية على إثيوبيا لعام جديد، وهي العقوبات التي تم إقرارها نتيجة؛ قرار آبي أحمد بشن حرب على إقليم التيجراي، وما ترتب على هذه الحرب من حجم ضحايا، يترواح بين ٣٠٠ ألف و٦٠٠ ألف نسمة.
الأسباب المباشرة للحرب التي باتت تداعياتها خانقة لأديس أبابا، هي حالة انقسام داخلي، يعود إلى مرحلة تكوين الدولة قبل قرن ونيف على يد الإمبرطور ملينك الثاني، الذي ضم الممالك المتاخمة لهضبة الحبشة بالقوة المسلحة، حيث تم تعريف سكانها من الأحباش بالأجناس المتنوعة، ولكن ملينك اعتمد بدلا من ذلك اسم إثيوبيا الذي يعني البني المحروق في اللغة اليونانية، في محاولة لخلق قاسم مشترك بين الأجناس المتنوعة، ربما.
على أية حال، أسس رئيس الوزراء مليس زيناوي، مؤسس مشروع النهضة الإثيوبية بعد حروب ضارية في تسعينيات القرن الماضي، حيث تم اعتماد الفيدرالية الإثنية كنظام للحكم، وذلك بهدف ضمان تعايش سلمي بين القوميات الإثيوبية التي تطورت كل منها بمعزل عن الأخرى، وهو ما ساهم في إنتاج صراعات بينية مسلحة بين القوميات، ساهمت في إضعاف الدولة، وعدم استقرارها حتى اللحظة الحالية.
كما لعب الاستقلال الإرتيري عام ١٩٩٣ عن إثيوبيا دورا أساسيا في سياسات إثيوبيا الإقليمية، والتي اتسمت في غالبيتها بنمط صراعي وتدخلي على حساب الأنماط التعاونية التي يمكن، أن تساهم في تحقيق حالة استقرار إقليمي، تساهم بدورها في بناء عملية استقرار داخلي للدول.
في هذا السياق، ربما يكون من الجدير بنا رصد التحديات التي تواجهها الدولة الإثيوبية في ضوء قدراتها الراهنة، وتوجهات رئيس وزرائها آبي أحمد، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
١- حالة الدولة الوطنية
تحت مظلة صراعات ملسحة، لا يمكن الحديث عن حالة اندماج وطني في أي دولة، وهي المعضلة الرئيسية التي تواجه رئيس الوزراء آبي أحمد، حيث تمارس ثلاث من أكبر المجموعات السكانية الإثيوبية صراعا على حيازة الأراضي والنفوذ السياسي، وذلك إلى حد أن التوسع العمراني للعاصمة أديس أبابا، يشكل تحديا أمام الحكومة؛ نظرا إلى أن حيازة الأراضي في هذه المنطقة تحت حيازة قومية الأرومو، أكبر قومية في إثيوبيا، وهي تدين بالدين الإسلامي.
أما خرائط الصراعات المسلحة؛ فهي جبهة تحرير تيجراي، وجيش تحرير الأرومو، وميليشيات فانو الأمهرية، وذلك مع وجود مؤثر من جانب دولة إرتيريا التي كانت جزءا من إثيوبيا، وينتمي شعبها إلى قومية التيجراي الممتدة بين البلدين، وذلك على خلفية تحالفات متحركة بين هذه المجموعات وبين السلطة الحكومية في أديس أبابا من جهة، وبين كل من إثيوبيا وإرتيريا من جهة أخرى. وفي هذا السياق تحالف التيجراي مع الأرومو لإسقاط إمبرطورية الأمهرة، بينما تحالف الأمهرة مع الأرومو والسلطات الحكومية في مراحل لاحقة ضد التيجراي في الحرب الأخيرة ٢٠ -٢٠٢٢، بينما اليوم يحارب الأرومو والأمهرة السلطات الحكومية.
وبطبيعة الحال، تشكل هذه الحالة تهديدا مركزيا للدولة، حيث تحال أديس أبابا مواجهة هذا التهديد بخفض مستوى التصعيد مع التيجراي بإزالتهم من قوائم الجماعات الإهابية، وكذلك بتدشين حوار وطني بشأن المطالبات المحلية للقوميات الإثيوبية، حيث تسبب مشروع آبي أحمد السياسي في القفز على نظام الفيدرالية الأثنية، ومحاولة تأسيس نظام حكم يحاول تدشين حكم مركزي، في مقاومة كبيرة من القوميات، تسببت في الصراعات المسلحة الراهنة.
الحوار الوطني الإثيوبي، والذي بدأ عام ٢٠٢٢، قد استثنى كل من إقليمي الأمهرة والتيجراي، بسبب الصراعات المسلحة، وما زال يبلور أجندة هذا الحوار عبر حورات مجتمعية مباشرة، أنجز منها عشر ولايات إثيوبية معظمها في المنطقة الجنوبية، بينما ما زالت البقية على الطريق، حيث تواجه مفوضية الحوار الوطني الإثيوبي انتقادات واسعة، خصوصا من جانب الكنيسة الأرثوذكسية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بسبب؛ استثناء بعض الأقاليم، ومدى عدالة التمثيل السياسي، كما واجه الحوار أيضا انتقادات أساسية في إقليمي الأمهرا وأوروميا، وكذلك من كتلة من الأحزاب المعارضة التي قاطعت هذا الحوار وسط تقدير واسع، أن حزب رئيس الوزراء الازدهار يهيمن عليه، بما يصمه بالشكلية وعدم الجدية.
٢- حالة النمو الاقتصادي
واجه الاقتصاد الإثيوبي منذ بداية هذا العقد تداعيات وباء كورونا كغيره من الاقتصادات الإفريقية، ولكنه يعاني عبئا مضافا بسبب؛ حرب التيجراي التي أدت إلى تراجع مؤشرات النمو المحلي إلى حوالي ٢٪ فقط، بعد أن كان مرشحا؛ لأن يحقق نسبة نمو أعلى، وذلك تحت مظلة مديونية مقدرة ببليون دولار أمريكي، وكذلك ضعف معدلات الاحتياطي الأجنبي في البلاد.
في المقابل، هناك عدد من المؤشرات الاقتصادية الإيجابية التي، ربما تساهم في التخفيف من المعطيات الاقتصادية المحلية السلبية، منها وجود استثمار خارجي ترتفع مؤشراته، وكذلك نسبة إعفاء من الديون، خصوصا من جانب الصين، وعقد إثيوبيا لاتفاق منتصف العام الجاري مع صندوق النقد الدولي، وتقدير صيني لإثيوبيا على الصعيد الاقتصادي باتت مؤشراته واضحة في النسخة العاشرة من القمة الصينية الإفريقية التي عقدت في بكين مؤخرا، حيث حصلت على ١٥٠ مليون دولار كمنحة. في هذا السياق، ربما يكون جديرا بالملاحظة، أن الإسناد الدولي للاقتصاد الإثيوبي في هذه المرحلة يسعى؛ لتخفيف حدة الأثر على السكان الإثيوبيين أكثر من دعم النظام السياسي الذي يواجه حالة إعادة تقييم دولي بشأن تأثير سياسياته الخارجية على حالة الأمن الإقليمي.
٣- السياسات الخارجية
بلور رئيس الوزراء الإثيوبي سياساته الخارجية في المرحلة الأولى من حكمه في إطار تفاهمات مع محيط إثيوبيا الجغرافي المباشر، خصوصا مع كل من الصومال وجيبوتي والسودان، بينما كانت علاقاته تتسم بالمحتوى الصراعي مع جواره المتاخم في شمال إفريقيا، أي مصر بسبب أزمة سد النهضة، حيث بلورة الاستراتيجيات الإثيوبية طبقا للوثيقة الإستراتيجية لمعهد الشؤون الخارجية الإثيوبي، والتي صدرت مؤخرا، وتحدثت عن الاتجاهات الإثيوبية في السيطرة على مياه نهر النيل والبحر الأحمر. وهو ما أسفر عن توقف مفاوضات سد النهضة، والرفض الإقليمي والدولي لاتجاهات إثيوبيا في منطقة أرض الصومال، من حيث تقديم الاعتراف بها كجزء مستقل من الصومال مقابل قاعدة عسكرية بحرية في أرض الصومال، وهو التطور الذي استدعي تحالفا بين مصر وإثيوبيا له طابع عسكري، ودعما صوماليا للقوميات المعارضة لأديس أبابا في إثيوبيا.
هذه التفاعلات الإقليمية، يبدو أنها السبب المباشر في القرار الأمريكي بتمديد العقوبات، حيث استند إلى أن اتجاهات إثيوبيا تشكل تهديدا للسياسات الخارجية الأمريكية، خصوصا في ضوء سلوكيات أديس أبابا في الأقليم الشمالي من إثيوبيا تحديدا، حيث القرار الأمريكي، وحيثياته تراجع الثقة الأمريكية في أدوار إثيوبيا الإقليمية مع تراجع مؤشرات استقرارها الداخلي، وطبقا لذلك، فإن هناك تهديدات حقيقية، ستواجه جهود آبي أحمد، في تحقيق التعافي الاقتصادي في بلاده، وتحقيق حد أدنى من الاستقرار الداخلي، خصوصا وأن الصين بدورها بصدد مراجعة مجمل سياساتها تجاه إثيوبيا أيضًا بسبب؛ السياسات الإثيوبية المزعزعة لحالة الأمن الإقليمي الهش أساسا في منطقة القرن الإفريقي، والذي يشكل نقطة ارتكاز للمصالح الصينية الاستراتيجية؛ انطلاقا من مشروعها العالمي الحزام والطريق.
تخسر إثيوبيا إذن في هذه المرحلة حلفاء عالميين وجيران إقليميين، وتواجه حالة تشظي داخلي، قد تُلجِئ آبي أحمد لاتخاذ خطوات للقفز للإمام وتصعيد حالة الاحتقان الإقليمي، التي ربما تفضي إلى صراعات مسلحة إضافية في القرن الإفريقي، غير مطلوبة في قرن عدم الاستقرار، كما وصفه بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي ذات يوم.