طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023 م، جولة ليست أخيرة في صراع ممتد، بدأ يوم فتح المسلمون مدينة القدس 636 م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ثم اغتصبها الصليبيون 1099 م من أيدي الفاطميين، ثم استردها الأيوبيون 1187 م، أي مكثت تسعين عاماً في أيدي الصليبيين، ثم احتلها الإنجليز 1917 م، ثم سلمها الإنجليز- على مراحل- للصهيونية، حتى تأسست الدولة العبرية 1948م، ثم جاء طوفان الأقصى تتويجاً لقرن كامل من الثورات والانتفاضات الفلسطينية التي تواصلت من عشرينيات القرن العشرين، حتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين، زخم ثوري موصول، لا يكاد يهدأ حتى يشتعل من جديد.

طوفان الأقصى- أطول حرب مسلحة بين العرب وإسرائيل- يعيد كتابة قواميس السياسة والحرب والسلام والجغرافيا والتاريخ في الشرق الأوسط، يعيد تعريف كل ما تم- عن قصد وعمد- تجهيله أو تزييفه أو تحويره أو صرفه عن معناه الحقيقي، فيوم انتزع المسلمون القدس 16 هجرية – 636 م، كانت هوية الشرق الأوسط الحديث والمعاصر تتشكل، وتوضع لبناتها الأولى، وقد استغرق الأمر أقل من ثمانين عاماً إضافية، حتى توضع الأسس والركائز والجذور حين اكتسح المسلمون أملاك بيزنطة- روما الثانية- في شمال إفريقيا ثم عبروا المضيق، ثم زحفوا في أوروبا، حتى رعت خيولهم العشب والكلأ في جنوب فرنسا، بسط المسلمون سلطانهم على شبه الجزيرة الأيبيرية 92 هجرية- 711 م؛ لتتغير خرائط العالم إلى الأبد، في أقل من مائة عام كانت أوروبا- روما الأولى والثانية أو غربها وشرقها- بين فكي الكماشة العربية. 

هذه الكماشة العربية- من انتزاع القدس 16 هجرية- 636 م، حتى فتح كامل الجزيرة الأيبيرية 92 هجرية- 711 م- قلبت موازين الاستراتيجية العالمية، فقد آلت مفاتيح التجارة والاقتصاد العالمي إلى سادة العالم الجدد، وقد بسطوا سلطانهم على البحرين المتوسط والأحمر والمحيط الهندي، فصارت تجارة الشرق والغرب بين أيديهم، انعزلت أوروبا في الاقتصاد، كما في السياسة، كما في الجغرافيا، كما في التاريخ، كما في الثقافة، انعزلت بمعنى، انكمشت وتهمشت وانكفأت ريفاً قروياً زراعياً دينياً متخلفاً، واستمرت على ذلك فترة مظلمة، تربو على أربعة قرون، هي ذات الفترة التي شهدت الصعود التاريخي لحضارة العرب.  

ثم بدأت حضارة العرب تخبو: 1- سقط الحكم الأموي في الأندلس 422 هجرية- 1030 م، ثم بدأ عصر الطوائف، حيث تفتت الخلافة الأموية إلى ما يساوي عدد الدول العربية الآن، وصل عدد دول الطوائف اثنتين وعشرين دولة، بينهما مكائد وحروب وخصومات، مما خلق الجو المناسب للتراجع العكسي لحضارة العرب في التاريخ، فقد انتزع الصليبيون طليطلة من أيدي المسلمين 1085 م، وجعلوها عاصمة قشتالة الكاثوليكية التي تزعمت إخلاء إسبانيا من الإسلام، كان انتزاع طليطلة ضربة الفأس الأولى التي أعقبها بسنوات معدودة انتزاع القدس من يد الفاطميين 1099 م، وكان انتزاع القدس أول مرة 1099 م، هو ضربة الفأس الثانية في تأسيس حالة الصراع الراهنة في الشرق الأوسط. 

ردود الفعل الرسمية الميتة للعرب على حرب الإبادة الصهيونية الأمريكية الأوروبية، تدفعني لطرح سؤال: هل يزول عرب الشرق الأوسط، وهم 22 دولة، مثلما زال عرب إسبانيا وكانوا 22 دولة؟ أو على الأقل هل يتحقق شعار من النيل إلى الفرات، ولو بعد عدة قرون، كما تحقق شعار الاسترداد الكاثوليكي في إسبانيا بعد تسعة قرون؟ ماذا يمنع من ذلك، إذا توفرت الشروط التاريخية ذاتها، وهي إصرار الكاثوليك مع غفلة ملوك الطوائف في إسبانيا، ثم إصرار الصهيونية وغفلة الـ 22 دولة عربية في الحال والاستقبال؟ 

إن الكيفية التي جرى بها زوال العرب وحضارتهم من إسبانيا قصة مدهشة، ورغم تعقيدها، فمن الممكن تبسيطها في إيجاز: فتح المسلمون- عرب وبربر- كامل إسبانيا، وبسطوا سلطانهم على كل شعوبها، باستثناء صخرة في الشمال وعرة جرداء جدباء، حاولوا معها مرات، لكنها شقت عليهم، واستعصت حتى زهدوا فيها، ولم يعبأوا بها، ولم يروها جديرة بكثير اهتمام، هذه الصخرة هرب إليها، ثم احتمى بها عدة مئات قليلة من فلول القادة الذين هزمهم العرب خلال مسيرة الفتوحات التي جابت إسبانيا من جنوبها حتى شمالها، هؤلاء الفلول مع الأيام، زادت أعدادهم، ثم أسسوا مملكة مسيحية صغيرة، ثم إلى جوارها مملكة أخرى، ثم منهما معاً بدأت فكرة الاسترداد، وطرد المسلمين؛ فالمسلمون الذين استكملوا حكم تلك البلاد 711 م، سقطت آخر ممالكهم 1492، ثم جرى طردهم بصفة كاملة شاملة نهائية 1610 م، بعضهم هرب وفر بدينه وبعضهم خسر دينه، وتنصر ولم يشفع له ذلك، وخرج منها كافراً، بعدما دخلها أجداده ينشرون الإسلام، من 711 م – 1610 م، تسعة قرون بالتمام والكمال، دخلوا فاتحين مسلمين هداة مهديين، ثم خرجوا أو أخرجوا مخذولين مهزومين، بل ومتنصرين ومشوهي الهوية والثقافة والعقيدة  .

هل اكتفى المنتصرون بذلك؟ هل يشفى غليلهم استرداد اسبانيا والبرتغال وطرد المسلمين والإسلام وتحويل المساجد كلها إلى كنائس؟ لم يكن ذلك كافياً، بل كان حافزاً لجولة جديدة من الصراع، جولة هدفها واضح جداً، ووسيلتها واضحة جداً، ولا بد من الهدف، مهما كانت المشقات، ولا بد من الوسيلة مهما كانت المغارم، أما الهدف فهو القدس، القدس ذاتها بشحمها ولحمها، القدس التي انتزعها منهم عمر بن الخطاب 16 هجرية – 636 م، ثم عاد وانتزعها صلاح الدين 583 – 1187 م، أما الوسيلة فهي تطويق العالم الإسلامي ووضعه تحت الحصار، ريثما يتم اختراقه من القلب وصولا إلى الجائزة الكبرى، وهي: القدس. وقد تتضافر على تطويق الإسلام وحصاره كافة ممالك أوروبا المسيحية، لم يمنعها ما بينها من منافسات وصراعات وحروب، لم يمنعها من الاتفاق على الهدف الأكبر، وهو الوصول إلى القدس، ولو بعد حين من الدهر، خمسة قرون تحت اسم الكشوف الجغرافية، ثم اسم الاستعمار، ثم الحرب العالمية الأولى، حيث سقطت القدس من يد العثمانيين في يد الحلفاء، ثم الحرب العالمية الثانية، حيث تأسست الدولة الصهيونية، خمسة قرون، تكاملت فيها الجبهة المعادية من البرتغال، ثم إسبانيا، ثم هولندا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، ثم أمريكا، وأمريكا الآن هي روما المسيحية، ثم الصهيونية الأقوى في العالم، بل والأقوى في التاريخ البشري. 

هذا هو موقع طوفان الأقصى في التاريخ؟ 

فما هو موقع العرب؟ 

عندما اضمحل الحكم الأموي 1030 م، كان أول نخبة حكم عربية تسقط، ثم أعقبهم سقوط الحكم الفاطمي في مصر والشام والحجاز واليمن 1171 م، وكانوا نخبة حكم عربية، ثم أعقبهم سقوط الخلافة العباسية 1258 م، وهم نخبة حكم عربية، وكانت القوى الثلاثة- الأمويون في قرطبة، الفاطميون في القاهرة، العباسيون في بغداد، صراعاتهم فيما بينهم أقوى من صراعاتهم مع القوى التي تخطط لاستئصالهم جميعا، فسقطوا تباعاً، سحقهم فرنجة شمال إسبانيا في حالة الأمويين، كما سحقهم صليبيو الغرب اللاتيني في حالة الفاطميين، كما سحقهم المغول في حالة العباسيين.

ثم نهض غير العرب، لحماية العرب، نهض الترك السلاجقة، ثم الكرد ثم المماليك، ثم العثمانيون في المشرق، كما نهض البربر في المغرب وإسبانيا، ولولاهم لكان مصير عرب المشرق الزوال الذي أدرك عرب أيبيريا. استقال العرب من التاريخ قرونا طوالاً، مثلما استراح التاريخ منهم، حتى بدأوا رحلة الإفاقة مع طرقات الغزو الاستعماري في القرن التاسع عشر، ثم مع الحركة الصهيونية في نهايته، هنا انقسم العرب عربين: عرب توافق مع الاستعمار، وتعايش معه ومازال، وعرب قاوم الاستعمار، وكافحه ردحاً من الزمن، ثم مع زيارة السادات للقدس نوفمير 1977 م، بدأ العربان يتقاربان، ويلتقيان في عرب واحد، عرب بلا عروبة.