“نتعرض للهجوم من سبع جبهات.. غزة، ولبنان، وسوريا، والضفة الغربية، والعراق، واليمن، وإيران”، استجبنا وتحركنا ضد 6 من هذه الجبهات، وأقول هنا بأوضح صورة: كل من يعمل ضدنا، هو هدف محتمل، لا حصانة لأحد”.
هكذا رسم وزير الدفاع في دولة الاحتلال يوآف جالانت، المشهد بنهاية العام الماضي، كاشفا عن حقيقة الموقف والمأزق في آن، الذي تمر به دولة الاحتلال، فما الذي تغير بعد الضربة التي نفذتها طائرات الاحتلال على ضاحية بيروت الجانبية، وألقت خلالها بعدد من القنابل الخارقة للتحصينات التي تزن 5 آلاف رطل “نحو 2268 كيلو جراماً”، لتنجح في اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله.
مأزق غياب اللقطة وانعدام الأفق في غزة
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عقب هجوم السابع من أكتوبر، وجدت إسرائيل نفسها في مأزق وجودي، فكينونتها في المنطقة قائمة على كونها صاحبة الجيش الأقوى، والذراع الطولى، والردع المستمر.
ولاستعادة الهيبة المفقودة، والتي هي جزء من أدوات دورها في المنطقة كمفرزة غربية متقدمة، ومخفر شرق أوسطي يحمي مصالح “الرجل الأبيض”، كانت القوة المفرطة، والتوحش المطلق، ضرورة لا خيارا متاحا، وبالتوازي مع المناورة السياسية التي تريد الإيهام، بأن نتنياهو الأرعن يخرج عن سيطرة مموليه في أمريكا وأوروبا، واصل الغرب كله دعم وحشية الجيش الإسرائيلي في غزة، وقمع معارضي هذه الوحشية في جامعات النخبة الأمريكية، وشوارع لندن، والمنصات الأكاديمية في باريس وبرلين، متخليا عن قناع الحداثة الذي حرص على ترسيخه خلال النصف الثاني من القرن العشرين وعقود الألفية.
كان نتنياهو وجيشه حريصين بشكل أساسي على اقتناص صورة لانتصار وحشي، لا يختلف مثلا عن مشهد جنود فرنسا، وهم يعلقون رؤوس مقاومي الجزائر على أعمدة حول قراهم، أو مشهد سحق جنود بريطانيا ذوي المعاطف الحمراء لثورة سكان المرتفعات الإيرلنديين في معركة “كولودن” الشهيرة.
نتنياهو بشكل خاص، كان يشعر بالخديعة، كونه تحمس لخطة توصيل المال القطري لحماس، مراهنا على تسلل الفساد لقيادات حماس، كما السلطة، وركونهم، ولو لقليل من الدعة، وخلق واقع ضاغط على سكان القطاع، يدفعهم للتمرد على سلطة حماس، بالتوازي مع نجاحات حقيقية في توسيع التطبيع مع أنظمة الخليج عبر اتفاقات إبراهام التي تمهد لتذويب الصراع، وتفتير الروح المعنوية المساندة لفلسطين عربيا، ليستفيق على “مناورة السنوار” الذي قلب المائدة واستخدم الأموال لتمويل أقوى هجوم خاطف على دولة الاحتلال منذ نشأتها، وتخزين لوجستيات حرب دفاعية طويلة الأمد.
حنق نتنياهو الشخصي، وتزايد دور اليمين المتطرف في تمتين ائتلافه الحاكم، والانهيار القاسي لمخططات عمل الغرب عليها لسنوات، كل ذلك دفعه لسعار في الهجوم على قطاع غزة، وتجاهل تام، وربما متعمد للقانون الدولي ولصورة الضحية التي حرص عل تصديرها عقب هجوم 7 أكتوبر.
لم يحصل نتنياهو على صورته المنشودة، وفوجئ بانطلاق جبهة الإسناد اللبنانية من اليوم الثاني، 8 أكتوبر منغصة عليه خطواته الانتقامية، وحاول في البداية التقليل من شأن آثار صواريخ حزب الله التي استهدفت على مدار أيام طويلة التجهيزات التجسسية، قبل أن تصل مستوطنات الشمال، وتدفع حكومة الاحتلال لتهجير مستوطنيها بالآلاف.
الشرق الأوسط الجديد.. إحياء مشروع لم يمت
في حرب الـ 2006 بين حزب الله وإسرائيل، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها كونداليزا رايس معلقة على المجازر الاسرائيلية بحق المدنيين اللبنانيين، إن الدماء التي تسيل هي دماء مخاض الشرق الأوسط الجديد.
كانت الإدارة الأمريكية تعتقد أن إسرائيل قادرة على سحق حزب الله، وإرساء معالم شرق أوسط، يعمل في خدمة مصالحها فقط، ويتيح لها ثرواته، ويتحول لمجرد ممر ضمن ممرات سلاسل إمدادها.
فشلت إدارة جورج بوش الابن وقتها بعد تمكن الحزب من وقف العدوان الإسرائيلي، وفرض إرادته السياسية والعسكرية، وتنفيذ صفقة تبادل بشروطه عبر الوسيط الألماني، لكن فيما يبدو لم تتخل “الدولة العميقة ” هناك عن المخطط، وربما أوهمت كثيرين، أنها استبدلت مخاضات الدم والفوضى الخلاقة بالاتفاقات الإبراهيمية، وارتضت أن تحصل على النصيب الأكبر من تورتة الشرق الأوسط، تاركة مساحة لقوى أخرى.
وفي 2023، تكشفت الصورة عن إصرار وحشي على الاستئثار الكامل بثروات المنطقة ومقدراتها، واندلعت حرب غزة؛ لتضع كلمة النهاية، لكن الانتصار تأخر طويلا، وكان حزب الله “مرة أخرى” سببا رئيسياً، ما يقود الأمور إلى لبنان، ليس إلى جنوبه فقط هذه المرة، ولكن إلى ضاحيته الجنوبية التي تعتبر مربعاً أمنيا للحزب.
محاولات عديدة بذلها المجهود الحربي الإسرائيلي ووسطاء التفاوض من أمريكا وفرنسا وألمانيا، توافدوا مرارا على بيروت، كانت تكفيهم كلمة واحدة تعد بفصل المسارين اللبناني والفلسطيني، لكن الأمين العام لحزب الله رفض كافة العروض والوعود والتهديدات، وفي خطاب شهير له قال: “اقتلونا تحت كل حجر ومدر وفي كل جبهة وعلى باب كل حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، لن نتخلى عن فلسطين”،
قراءة نصر الله.. التي تخص الجميع
الخيار كان عقائديا، بقدر ما كان نابعا من وعي بالرغبة التوسعية التي باتت ملحة، والتي كشفها نتنياهو في قلب الأمم المتحدة بخارطة “إسرائيل أحلامه”، والتي تمتد إلى مناطق في دول مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن.
الكل مستهدف، والكل يتعاطى مع الأمر بطريقته، “الأغلبية السنية” تريد موطئا لنفسها تحت الظل الأمريكي، فيما يسعى الأقل؛ لانتزاع ما يرونه حقاً من خلال المقاومة بشقيها العسكري والسياسي، مع بناء تحالفات شجرية مع إيران وسوريا وروسيا والصين، وعدد من دول أمريكا الجنوبية.
ربما هذا الموقف المعلن من نصر الله، والذي أثبتت الأيام صلابته، وجديته هو الذي قاد نتنياهو، وفريقه، إلى أنه لا مفر من التعامل مع التهديد اللبناني بمنظور مختلف، فالاجتياح البري منطقة موحلة ثانية مؤهلة لابتلاعهم، والترغيب والترهيب السياسي فاشلان، وهنا برزت فكرة ضرب قمة الهرم التنظيمي، ليس فقط من أجل تفكيك قدرات الحزب، وإصابة قلبه وأطرافه بالفوضى، وإنما في المقام الأول بهدف الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة التوسع قبل الموعد الذي كان محددا لها على نهج “الخيار شمشون”، إما كل شيء أو لا شيء.
واعتمادا على معلومات استخبارتية أمريكية في الغالب بدأت حملة اغتيالات، طالت قيادات في الحزب بعضها، كان مطلوبا أمريكيا منذ ثلاثين عاماً.
تدحرجت كرة اللهب؛ لتصل في أقل من عشرة أيام إلى قمة العمل المقاوم عربياً، الأمين العام لحزب الله، وبدا لافتاً أن تحرص منصات الإعلام الإسرائيلي على التذكير بسبق وصفه لدولتهم، بأنها “أوهن من بيت العنكبوت”، ربما لأن الكلمة وقتها، لامست عصبا عارياً لدى الإدارة والمجتمع الصهيوني،
في انتظار ترامب
تبدو خارطة النزاعات على كوكب الأرض في حالة “اشتعال ثابت”، ربما في انتظار أحد أهم متغيرات السياسة والعلاقات الدولية، وهي الانتخابات الأمريكية التي يتنافس فيها على غير العادة تياران اقتصاديان متنافران، وليس فقط مرشحان رئاسيان ينتميان للحزبين المحتكرين للتنافس عبر تاريخ الولايات المتحدة.
الكل يعلم أن ترامب هنا ليس مرشح الحزب الجمهوري، بقدر ما هو مرشح “الوقود الأحفوري” وعجلة الاقتصاد المهيمنة على العالم منذ نصف قرن، بينما تأتي كامالا هاريس كعنوان على زمن الهيدروجين الأخضر الذي سيعيد الصدارة للغرب، ويزحزح الصين وروسيا عن صدارة السباق.
وفي القلب من مربع التنافس يأتي الشرق الأوسط، وحقول غاز المتوسط وسلاسل الإمداد التي أزعجها الحوثيون، وهنا ينتقل الصراع لمستوى أشد تعقيدا.
نتنياهو يعتبر ترامب حليفا موثوقا، لجهة بقاء إسرائيل كمخفر يحرس مصالح شركات النفط وحقول الغازــ وبالفعل بدأت إسرائيل، تطالب بإعادة ترسيم الحدود البحرية مع لبنان والذي وقعته في ظل تهديد نصر الله، بأنه لن يصمت على أي محاولة لسرقة غاز بلاده. والسعودية تنتظر ترامب ليتوج بن سلمان ملكا، كما سبق وعمده وليا للعهد، وروسيا تنتظر ترامب ليوقف حرب أوكرانياــ ولذا تتلكأ في إمداد إيران بأسلحة الدفاع الجوي، وتنتظر الإمارات ترامب لتواصل مع صهره كوشنير الضغط في اتجاه الاتفاقيات الإبراهيمية، والتطبيع العلني مقابل اقتناص جزء من وكالة المصالح الأمريكية.
بالنسبة لحزب الله ومحور المقاومة ودول مثل مصر والأردن، فإن ترامب يمثل خطرا محدقاً، كونه مؤيدا، لتوسع دولة إسرائيل “الصغيرة جدا، حسب تعبيره”، سواء كان التوسع جغرافيا، أو توسعا في النفوذ والتأثير.