يعرف الندب، بأنه عمل محدد المدة، وربما قابل للمد، يقوم به موظف- بتصريح من رئيس العمل- بالعمل في مكان آخر، قد لا ينتمي بالضرورة بأي صلة بعمله الأصلي، أي بما قد يتوافق أو لا يتوافق مع وظيفته. وفي القضاء يعتبر الندب، هو عمل القاضي أو من في حكمه في مكان آخر، قد يكون خارج السلك القضائي كلية. حيث يخضع القاضي المنتدب لقيادة أخرى، يأتمر بأمرها، ما قد يشكك فيما بعد في نزاهته وشفافيته- إذا ما عاد لعمله الأصلي- التي جبل القضاء والقضاة عليها، باعتبارهم أشخاص مستقلون، لا يتنازعهم هوى الانحياز أو المجاملة.     

عندما تم تعديل دستور2013 عقب أحداث 30 يونيو 2013، أُقر ضمن التعديلات المادة 170، والتي كانت تجيز ندب القضاة كليا، بما يحفظ استقلالهم، وبما ينظمه القانون، إذ أشارت إلى أن “القضاة مستقلون.. ويحدد القانون شروط وإجراءات تعيينهم، وينظم مساءلتهم تأديبيًا، ولا يجوز ندبهم إلا ندبًا كاملاً، وللجهات وفي الأعمال التي يحددها القانون، وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء وإنجاز أعماله”. يومئذ أُدرك أن هناك لغطا في النص الذي جمع بين الندب الكلي واستقلال القضاة، لأنه من المعروف أن الندب يمس هذا الاستقلال.

ومع تعديل الدستور، كانت هناك المادة 186، وهي المادة التي رممت هذا اللغط، بأن أشارت إلى أن “القضاة مستقلون.. ويحدد القانون شروط وإجراءات تعيينهم، وإعاراتهم، وتقاعدهم، وينظم مساءلتهم تأديبياً، ولا يجوز ندبهم كليا أو جزئيا إلا للجهات وفى الأعمال التي يحددها القانون، وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء والقضاة وحيدتهم، ويحول دون تعارض المصالح. ويبين القانون الحقوق والواجبات والضمانات المقررة لهم”. من هنا شمل الحظر كلا من الندبين الكلي والجزئي، منعا لتضارب المصالح.

وعندما أشار الدستور إلى تنظيم القانون لأعمال الندب في تلك المادة، ما فتئ أن شرح الدستور مقصده النبيل في المادة 239 منه، بأن ذكر بوضوح لا لبس فيه، بأن يصدر “مجلس النواب قانونا بتنظيم قواعد ندب القضاة وأعضاء الجهات والهيئات القضائية، بما يضمن إلغاء الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية أو اللجان ذات الاختصاص القضائي أو لإدارة شؤون العدالة أو الإشراف على الانتخابات، وذلك خلال مدة لا تتجاوز خمس سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور”. هكذا لم ينص التعديل الدستوري فقط على غلق باب الندب، مع استثناء أمر محدد هو الندب لهيئات وجهات قضائية، بل أنه أيضا ألزم السلطات العامة بإلغاء الندب القائم (الكلي والجزئي)، أي أنه أقر بضرورة وسرعة قطع الصلة بين القضاة والندب غير المرتبط بالوظيفة القضائية.

وبشأن الانتخابات لم يختلف دستور 2012 (مادة209)، عما ورد في تعديله، إذ سمحت ذات المادة في الدستور المعدل أيضا بندب القضاة إلى الهيئة الوطنية للانتخابات، وبأن “يصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية. ويكون ندبهم للعمل بالهيئة ندباً كلياً لدورة واحدة مدتها ست سنوات، وتكون رئاستها لأقدم أعضائها من محكمة النقض.”.

هكذا سعت السلطة في مصر لتقرير أوضاع جديدة، لم يشأ دستور 1971، أن يتناولها، ما ساهم في حالة من حالات التداخل الكبير بين السلطتين القضائية والتنفيذية، حيث سعى نظام مبارك لإفساد القضاة والسلطة القضائية، بأن أفسح لهم المجال بالعمل في الجهتين التنفيذية والتشريعية، ما أسفر عن تهديد استقلال القضاء، ومحاولة ضرب نزاهته في مقتل.

لا شك أن ما فعله نظام مبارك، لم يكن يشترع بأن الدستور في عهده سكت عن تلك النكبة، إذ أن المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعتها مصر سابقا، قد أقرت ضمنا بتلك الاستقلالية. فالمادة 11 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والمادة 26 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب كلها، تتحدث عن المحاكمات العادلة والنزيهة واستقلال وحيدة القضاء.

مما تقدم يتبين أن مجلس النواب خاصة-والسلطة عامة- باعتباره المخاطب المباشر بالمادة 239، أصبح ملزما بسرعة سن قانون منع ندب القضاة، بل أنه مدان لكونه مقصر في التأخير الذي اقترفه بحق الدولة والمجتمع، وبحق النزاهة والإنصاف والشفافية. لقد كان حريا بمجلس النواب- وبالحكومة التي تقوم بدفع مشروعات القوانين له- أن يقوما بسرعة سن هذا التشريع قبل يوم 18 يناير 2019، وهو اليوم الذي تنتهي فيه المدة الموضوعة في المادة 239 من الدستور، والتي تجبر سن القانون قبل تلك الفترة، ما جعل تلك الجهات، تظهر وكأنها تهدف إلى وسم القضاء بما ليس فيه، أو بما مرد عليه من استقلال ونزاهة تعارف عليها.

بل أنه لا غرو القول، بأن تلك المادة تلزم السلطة التأسيسية للدستور بوضعها في نصابها، وتنفيذها بسرعة، ولا يعتد هنا بأي حديث عن أن المواعيد والتوقيتات المرتبطة بسن هذا التشريع، هو موعد تنظيمي غير ملزم، إذ أن هذا القول هو من الأقاويل التي مرد عليها بعض الممالؤن من بطانة السوء الذين اعتادوا تبرير كل خبيث وتقنين كل مسيء. والدليل على التعمد في التجاهل، أمران، شكلي وموضوعي.

شكلي: وهو أن هناك مواد أخرى في الدستور قد ألزمت السلطات العامة بسن قوانين لها في آجال محددة، نفدت منذ زمن بعيد، دون أن تسن، كقانون العدالة الانتقالية وقانون الإدارة المحلية، ما جعل حجة المواعيد التنظيمية مجرد ذريعة وحجة باهتة.

وموضوعي: وهو أن تأجيل سن القانون لا يعطل دولاب العمل فقط لقلة عدد القضاة، ولا يكلف الموازنة العامة الكثير من المال الإضافي بسبب؛ الرواتب المرتفعة من الجهة المنتدبة، بل أنه يجعل صورة مصر العدلية في غاية السوء، بسبب؛ ما يسفر الندب عن ران على قلب العدالة التي ما فتئت من خلال تقاليدها وتراثها، أن توصم بالشفافية والاستقلال.

إن واحدا من أهم أسباب سرعة سن هذا القانون هو، أنه يحقق الاستقلال المالي والإداري والفني للقضاة، ما يجعل رمز وشعار السلطة القضائية كسلطة معصوبة العين، أي تضع كافة الخصوم سواسية لا فرق بين شخوصهم المعنوية والمادية، موضع التنفيذ الفعلي.

لقد وضعت السلطة في بداية الأمر مشروع قانون لتنفيذ المادة 239 من الدستور، وأُرسل القانون إلى مجلس الدولة بغية الموافقة عليه، وقد وضع المجلس الذي تسلم المشروع من مجلس الوزراء في 8 نوفمبر 2018، ملاحظاته على المشروع، وقد أعلن عن تلك الملاحظات في 22 نوفمبر 2018، ما أفضى في التحليل الأخير لتلك الملاحظات عن رفض مجلس الدولة لفلسفة وهيكل مشروع القانون بالكلية.    

فمن حيث الشكل، اعتبر مجلس الدولة، أنه لم يتم أخذ رأي الجهات والهيئات القضائية المعنية، بالمخالفة، لما نصت عليه المادة (185) من الدستور.

ومن حيث المضمون، فإنه بدلا من أن تقوم المادة الثانية بتحديد جهات الندب، وهي المحددة على وجه العموم في الدستور، بأنها الجهات والهيئات القضائية، قامت المادة بتحديد الجهات التي لا يُنتدب لها القضاة، وهو إجراء غير سليم النية، لأن الحكومة تغفل به ذكر عديد الجهات، وهو ما حدث بالفعل، حيث أغفلت المادة المذكورة عن قصد الندب إلى مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وهما أهم الجهات التي يتم فيها الندب المخل بالشفافية والعدالة. 

إضافة إلى ذلك، عرفت ذات المادة إدارة شؤون العدالة- التي يجوز ندب القضاة وأعضاء الجهات والهيئات القضائية للقيام بها- بعبارات فضفاضة ينقصها التحديد الواجب لاستجلاء المعنى المقصود منها على نحو منضبط، ما يفتح الباب عند التطبيق لإدراج أعمال في نطاق إدارة شؤون العدالة، يجوز ندب القضاة وأعضاء الجهات والهيئات القضائية لها، الأمر الذي لا يتفق والغاية التي قصدها الشارع الدستوري.

من ناحية أخرى، أناط نص المادة ذاتها برئيس مجلس الوزراء “تحديد مجالات الندب لإدارة شؤون العدالة”، وهو ما اعتبره مجلس الدولة، أمرا لا يتفق مع الدستور، لأن الأخير اختص المشرع القانوني، وهو البرلمان، بتحديد الجهات والأعمال التي يجوز الندب إليها وفق الدستور، دون أن يكون للسلطة التنفيذية أن تتدخل في هذا الشأن بقرارات تصدر عنها.

وتضمنت الملاحظات أيضا أن نص المادة (4)، فيما تضمنه من “إجازة الندب لوزارة العدل”، لا يتفق مع الدستور، وذلك بحسبان أن مشروع القانون جاء في سياق تنفيذ، ما تضمنه دستور 2012 المعدل، من إلغاء للندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية. ولما كانت وزارة العدل هي أحد أفرع السلطة التنفيذية، فلا يمكن أن تدخل ضمن الجهات المحددة التي يجوز الندب لها وفق هذه المادة، ولا يمكن اعتبارها من الجهات القائمة على إدارة شؤون العدالة.

ونوه مجلس الدولة، إلى أن الحكم الوارد في المادة (6) من القانون، والذي تضمن “جعل زيادة مدة الندب الكلي على أربع سنوات متصلة مشروطا بقرار، يصدر عن رئيس مجلس الوزراء وفق تقديره”، هو أمر يخالف الدستور، ذلك لأن رئيس الوزراء يندرج حتما ضمن السلطة التنفيذية، ناهيك عن أن الندب كما حُدد للجهات والهيئات القضائية حصرا، هو أمر يتعلق بجهتي الانتداب (المنتدِبة والمنتدَبة)، وهو أمر لا علاقة للسلطة التنفيذية بمدته ولا به بداية.

واختتمت الملاحظات على القانون، بأن نص المادة (9)، والمتضمن حكمًا لتنظيم أقصى مدى للندب الكلي للقضاة، تثير اللغط، لأن بعض أعضاء السلك القضائي منتدبون عند سن هذا القانون، ما يثير ارتباكا في حساب المدة.

وهكذا كانت الأجواء التي تفضي عمليا لتأكيد، أن الحكومة وربما مجلس النواب، وهما المفترض أن يكونا حراسا للدستور، هما اللذين يقوما بخرق الدستور. لقد حاولت النائبة نادية هنري، تدارك الموقف وقدمت في 21 نوفمبر 2018 مشروع قانون مواز موقع عليه من 63 نائبا، لكن المشروع اختفى في إدراج رئيس المجلس، كما كان يحدث تماما في عهد الرئيس مبارك بالنسبة لمشروعات القوانين غير المرضي عنها.. لا عزاء للدستور.