عادة ما يعاني السودان خلال أشهر الخريف من السيول والفيضانات، والتي تؤدي في الغالب إلى خسائر بشرية، ودمار للبنية التحتية، ولكن خريف هذا العام كان كارثيا بكل المقاييس.
حيث تأثرت 12 ولاية من أصل 18 بالسيول والفيضانات، وكان من بينها ولايات وسط وشرق وشمال السودان التي كان من النادر جدا هطول الأمطار فيها، ما أدى لدمار أكثر 80 قرية، وجرف مئات آلاف من المنازل في مدن أبو حمد ودنقلا وطوكر.
ويأتي ذلك ضمن تأثيرات ظاهرة التغير المناخي، نسبة لانتشار أنشطة التعدين العشوائي، وبناء سدود (مروى ـ خشم القربة ـ عطبرة ـ ستيت)، بالإضافة لسد الروصيرص في النيل الأزرق، وهي ولاية واقعة في الجنوب الجغرافي للسودان، فقد وصل النيل الازرق لأعلى منسوب له منذ قرون خلال العام 2020 كواحدة من تأثيرات بناء سد النهضة بإثيوبيا، ما تسبب في وقوع كوارث الفيضانات.
ودمرت السيول سد أربعات، وهو شريان الحياة الرئيسي لشرق السودان في الكهرباء، ومياه الشرب والزراعة والرعي وقد أدى دمار (أربعات) لجرف 20 قرية بالكامل، وتأثرت 70 أخرى، وتدمير 50 ألف منزل، ووفاة 30.
الكوليرا تحصد الأرواح
وفي ظل الوضع المتهالك في السودان، أدت الكارثة لانتشار أمراض الكوليرا، وحمى الضنك، والملاريا في 8 ولايات من بينها العاصمة، نتيجة ركود المياه واختلاطها بمياه الصرف الصحي.
وفي شمال وشرق السودان، اختلطت مياه السيول بمخلفات التعدين، ومواد الزئبق والسيانيد و11 عنصرا كيميائيا آخر، يستخدم في استخلاص الذهب، الأمر الذي أدى لظهور أمراض السرطانات والتهاب الجلد البكتيري.
في 12 أغسطس 2024، أعلنت وزارة الصحة الاتحادية السودانية على لسان وزيرها هيثم محمد إبراهيم، عن تفشي وباء الكوليرا في البلاد.
وأفاد بظهور 14944 حالة إصابة بالكوليرا في 10 ولايات، مع ظهور 386 حالة جديدة، وقد تم الإبلاغ عن 8,457 حالة إصابة، و299 حالة وفاة في ثماني ولايات.
وتعد هذه إصابات الموجة الثانية، وقد سبقتها موجة أولى في 22 يوليو، أدت إلى تسجيل 8457 إصابة، و299 وفاة.
وفي سبتمبر سجلت وزارة الصحة أكثر من 388 حالة وفاة، و13,000 إصابة في ولايات كسلا، القضارف، البحر الأحمر، الشمالية، ونهر النيل، وبحسب وصفها، فهي مناطق وصلت إلى مرحلة الخطر، وتحتاج تدخلا عاجلا.
وأعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عن وفاة أكثر من 400 شخص، وإصابة أكثر من 10 ألف بالكوليرا، وعزت ذلك لعرقلة الاستجابة الانسانية لقوات الدعم السريع والجيش.
وحذرت ممثلة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في السودان كريستين هامبروك ،من أنّ السودان يشهد موجةً جديدةً من تفشي وباء الكوليرا– وهي المرّة الثانية منذ بدء الحرب قبل ستة عشر شهراً– الأمر الذي يهدد المجتمعات النازحة في جميع أنحاء البلاد.
ومنذ بدء القتال في إبريل من العام الماضي، نزح ما يقارب 10 ملايين شخص بسبب المعارك وانعدام الخدمات الأساسية.
وأعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” في السودان، أن أكثر من ثلاثة ملايين طفل، معرضون لخطر الإصابة بالكوليرا وأمراض مميتة أخرى، وأضافت أنها تقوم بتنفيذ الاستجابة الطارئة عبر التطعيم منذ 9 سبتمبر بالتنسيق مع وزارة الصحة السودانية ومنظمة الصحة العالمية.
ضعف الاستجابة من المسئول؟
أضعفت الحرب قدرة الدولة على الاستجابة للأزمات، بسبب صرف ميزانيتها الضئيلة في الأمن والدفاع، إضافة للمشكلات المتعلقة بالإغاثة الإنسانية، وهي بالكاد غير كافية مقارنة بحجم الأزمة، وهذا بالنسبة للمناطق ذات التأثر الأقل بالحرب.
بينما تعاني المناطق الملتهبة أو الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع من عدم وصول المساعدات للمستفيدين، بسبب انتشار جرائم القتل خارج نطاق القانون والنهب وفرض الرسوم والجبايات الباهظة وعدم وجود مسارات آمنة لتقديم المساعدة.
وأدت الحرب المشتعلة منذ إبريل 2023، بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى تدمير معظم المنشآت الصحية الهامة الواقعة في العاصمة الخرطوم، والتي لا زالت تشهد معارك حامية الوطيس وسط تقاسم للسيطرة بين طرفي الحرب. ففي مدينة أم درمان مثلا، يعمل مستشفى وحيد (مستشفى النو) والذي يُستهدف دائما من قبل مدفعية قوات الدعم السريع.
وتعمل بضع مراكز صحية، تفتقر للإمكانيات والموارد، ولا تلبي حاجة السكان ويضطرون عادة إلى اتخاذ المنازل كعيادات طبية لتقديم الخدمات الطارئة.
وعادة ما تتعرض المستشفيات للقصف العشوائي من قبل قوات الجيش بعد احتلالها بواسطة قوات الدعم السريع، ويضاف إلى ذلك جرائم النهب الذي تتعرض له المستشفيات الواقعة في المناطق المشتعلة. وكذلك عمليات السطو على المساعدات الطبية في مناطق سيطرة الدعم السريع، والاعتداء على عمال وموظفي الإغاثة والمنظمات الدولية، وبالأخص منظمة الصليب الأحمر، ومنظمة أطباء بلا حدود، واللذين يواجها اتهامات باستغلال العمل الإنساني لإمداد الأطراف بالأسلحة، وهو ما يعوق الاستجابة الإنسانية بشكل كبير.
وبالسؤال عن إمكانية الاستجابة لدى غرف طوارئ ولاية الخرطوم، وهي مجموعات تطوعية معروفة من الشباب تقدم المساعدات الإنسانية للمواطنين داخل الأحياء، ذكرت (و) وهي عضوة المكتب الطبي لغرفة الطوارئ، أن الوباء وصل مراحل خطيرة، وانتشرت العدوى بين المواطنين الذين يعانون من نقص حاد في الغذاء، بالإضافة لتلوث مياه الشرب التي تنقل مباشرة من النيل، بسبب تعطل محطة المياه الرئيسية منذ اليوم الأول للحرب على إثر قذائف متتالية.
وأضافت أن المواطنين لجأوا لشرب مياه الآبار غير الجوفية، والتي في الغالب تختلط بمياه الصرف الصحي، وطفت مياه الأخير بسبب الهطول المتواصل للأمطار في أغسطس الماضي، وانسداد مجاري المياه التي كانت تقوم الحكومة بفتحها وتنظيفها كل خريف.
وشددت على أن غرفة الطوارئ عاجزة عن تقديم التطعيم الوقائي، والأدوية لتخفيف الحميات والإسهال بسبب نقص التمويل.
“ولا حياة لمن يعاني”
إجمالا وفي ظل هذه الظروف المروعة المنطوية على غياب أية استجابة تذكر لمن يعانون، فإن هؤلاء باتوا على شفير الدخول لمرحلة “ولا حياة لمن يعاني” بعد أن مروا بمرحلة ولا حياة أو استجابة حية وحقيقية من الهيئات والأطراف والمسئولين. فالموت يحدق من كل جهة بمن يعاني.