لم تنشأ ظاهرته من فراغ تاريخ، فهو ابن تجربة المقاومة اللبنانية مرتبطا بمنعرجاتها الحرجة أكثر من أي أحد آخر على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
كان الوصول إليه بالاغتيال في ذروة الحرب الجديدة على لبنان؛ داعيا لطرح تساؤلات قلقة عن مستقبل المقاومة.
يقال- عادة- إن المقاومة فكرة والفكرة لا تموت.
هذا صحيح تماما، لكنه لم يكن قائدا عاديا وظلاله حاضرة في المشاهد المستجدة.
أفضى غيابه بالضرورة إلى تغيرات حقيقية في بيئة المقاومة، بنيتها وقدرتها على إدارة التوازنات وسط حروب وأنواء تستهدف وجودها نفسه.
في اللحظة الراهنة، تتبدى في المشهد اللبناني مخاو جره إلى التفجير من الداخل بالشحن الطائفي المقصود من أطراف عديدة داخلية وإقليمية، أمريكية وإسرائيلية.
تختلف المقاربات، لكنها جميعا تستهدف رأس المقاومة اللبنانية بذريعة هويتها الشيعية.
كان ذلك تدليسا على التاريخ والحقائق، وكل ما هو له قيمة وأثر.
يحسب للشيعة لا عليهم دفاعهم المستميت عن القضية الفلسطينية، حتى لا تصفى نهائيا بالصمت، أو بالتواطؤ.
بالتكوين الأساسي فإن “نصر الله” رجل دين شيعي.
وبتعريف دوره فهو القائد الأبرز للمقاومة اللبنانية.
في مقاربته للمأزق، الذي وجد نفسه فيه إثر احتلال العراق عام (2003)، قال “نصر الله” في حوار طويل جمعنا: “انتظر قليلا، فهناك أوضاع وتعقيدات إنسانية وسياسية، يصعب تجاوزها”، قاصدا الشحن الطائفي الزائد ضد نظام “صدام حسين”.
في ذلك الحوار، أبدى “نصر الله” خشيته من أن تؤدي المبالغات في الثأر السياسي إلى غياب أية رؤية حقيقية، لما سوف يجري في المنطقة من مخاطر وتحديات.
كانت معضلته: كيف يحظى كحركة مقاومة على أوسع دعم شعبي لبناني وعربي في حرب تكسير العظام مع آلة الحرب الإسرائيلية، دون أن يقع في مصيدة المناكفات الطائفية؟
بصورة لافتة نجح في حرب تموز (2006)، وما بعدها في كسر الحواجز الطائفية، وبدا قائدا تحرريا في عين الشعب العربي كله.
أسوأ ما يحدث الآن خلط الأوراق من جديد، ووضع لبنان على منحدر التفجير الداخلي.
بلغة متشابهة تحدث بوقت واحد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ووزارة الخارجية الأمريكية عن إنهاء قبضة حزب الله على الحياة السياسية في لبنان؛ كهدف أعلى للحرب عليه.
المعنى المقصود، إعادة ترتيب أوضاعه وفق الاعتبارات والمصالح الإسرائيلية.
ما احتمالات المساومة على مستقبل الحزب ومستقبل البلد كله بعد أن تتوقف النيران؟!
هذا أكثر الأسئلة الآن حساسية وخطورة.
الفراغ السياسي المؤسسي، الذي يخيم على بلد في حالة حرب ضارية، يغري بسيناريوهات التفجير الداخلي، فموقع رئيس الجمهورية شاغر، وحكومة “نجيب ميقاتي” تتوقف شرعيتها عند حدود تصريف الأعمال.
رغم ما أبداه اللبنانيون من تضامن حقيقي أمام الموت الزاحف، الذي يتهددهم جميعا في الشوارع؛ جراء القصف الوحشي للطائرات الإسرائيلية على مناطق مختلفة من البلد، إلا أنه لا يمكن استبعاد التفجير الطائفي على خلفية الموقف من الأثمان السياسية، التي يتعين دفعها مقابل وقف إطلاق النار.
هناك دعوات صحيحة في ظاهرها، لكنها ملغمة بتداعياتها، لانتخاب رئيس جمهورية فورا، أو الالتزام الكامل باستحقاقات القرار الأممي (1701)، الذي صدر بالإجماع لوقف إطلاق النار إثر حرب تموز.
المشكلة ليست في النصوص، بقدر ما هي في الأجواء.
باسم التوافق قد تتولى رئاسة الجمهورية شخصية تعادي المقاومة، وتتبنى خطابا سلبيا من حضورها ومستقبلها.
وباسم ضرورات وقف إطلاق النار قد يفسر القرار الأممي وفق ما تريده القوى الغربية، كأن تحصل إسرائيل بالتفاوض على ما عجزت عن تحقيقه حتى الآن بالسلاح، أو أن يفضي فك الارتباط مع غزة، دون أن توقف حرب الإبادة عليها إلى خذلان جديد، لا يحتمل.
إذا ما حدث ذلك، فإنها الهزيمة الاستراتيجية للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، غير أن الروادع التي تمنعها ماثلة.
هناك- أولا- رمزية “نصر الله” وإرثه في مخيال مقاتلي حزب الله، كأنه استدعاء في عصور جديدة لصرخة سيد الشهداء “الحسين بن علي”: “هيهات منا الذلة”.
شهادته كرست صورته في أعين مقاتليه، إذا ما تهاونوا وقبلوا الانصياع، فكأنهم خذلوا “الحسين” مجددا، وتركوه وحيدا تحت سيوف قاتليه.
بدا مستلفتا انتشار عمل ملحمي ألفه الموسيقار اللبناني “زياد الرحباني”، المسيحي التقدمي، على شبكات التواصل الاجتماعي عن قائد المقاومة الذي رحل شهيدا: “حفيد محمد.. نشيد علي.. بشائر عيسى”.
هذه حالة وجدانية، يكاد يستحيل تخطيها بقفز أو أخرى في الهواء.
وهناك- ثانيا- الأوضاع في الميدان حيث أثبت مقاتلو المقاومة قدرتهم على صد محاولات التوغل البري، وألحقوا خسائر فادحة بالقوات الإسرائيلية.
“يكفي ألا نهزم حتى ننتصر”، كانت تلك صرخة لـ”نصر الله” ما زالت تدوي رغم غيابه، بأنه لا يوجد ما يبرر التسليم المجاني بالمطالب الإسرائيلية.
وهناك- ثالثا- الحسابات الإيرانية، الداعم الإقليمي لحزب الله، التي لا يمكن أن تتقبل خسارة حليفها الرئيسي لمواقعه وأدواره.
لا أحد في طهران مستعد أن يصدق دعوات واشنطن لمساحة دبلوماسية، تنهي الحرب على لبنان، إذا كانت إسرائيل تتأهب لحرب واسعة معها، تفجر المنطقة كلها.
بقوة الحقائق، قفزت إسرائيل من مستنقع غزة إلى مستنقع آخر في جنوب لبنان، دون أن تحقق في الحالتين أيا من أهدافها المعلنة.
لا اجتثت “حماس”، وأعادت رهائنها في الأولى، ولا هي بصدد إعادة سكان مستوطنات الشمال الإسرائيلي إلى بيوتهم، وتقويض حزب الله في الثانية.
إذا صحت تسريبات، أن إيران قد تخطت فعلا العتبة النووية، وقامت بتفجير ناجح في صحراءها، فإننا أمام أوضاع جديدة ومختلفة جذريا.
معضلة إسرائيل، أنها تحارب بعضلات الولايات المتحدة، ولا تقدر على الحرب بمفردها، لكنها تصعد إلى حافة الحرب الإقليمية.
لا يوجد لدى “نتنياهو” أي أفق سياسي، ولا أي تصور لليوم التالي في غزة والضفة ولبنان.
الكلام عن خرائط جديدة محض ادعاءات، لا تملك القدرة عليها، مهما تواطأت، أو صمتت، النظم والحكومات العربية.
معضلة الولايات المتحدة، أنها مستعدة للمضي مع إسرائيل، فيما تطلبه وتريده كضرب المنشآت النفطية الإيرانية، أو مشروعها النووي، أيا كانت الأضرار التي تلحق بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
بالفعل ورد الفعل، نحن مقبلون على فوضى إقليمية ضاربة، تتحمل مسؤوليتها إسرائيل المهزوزة والإدارة الأمريكية الضعيفة، التي يصعب التعويل عليها في لعب أية أدوار سياسية فاعلة ومؤثرة.
في كل الحسابات والسيناريوهات، تظل ظلال “نصر الله” حاضرة في تقرير مستقبل المقاومة.