فور تأسيس إسرائيل نشطت السياسة الغربية- أوروبية وأمريكية- في ثلاثة اتجاهات: 1- ضمان أمن إسرائيل، بما يستدعي- بالحتمية- ضمان تفوقها في السلاح على كل محيطها العربي- الإسلامي من المغرب حتى الباكستان.. 2- إغراء العواصم العربية والإسلامية بعقد اتفاقات سلام وتبادل تمثيل دبلوماسي وتطبيع كامل وشامل مع إسرائيل. 3- تأسيس حلف عسكري، يضم بلاد الشرق الأوسط مع عواصم الغرب بقصد الدفاع عن الإقليم، ضد ما كان آنذاك من انتشار الشيوعية والمنافسة السوفيتية. هذه الاتجاهات الثلاثة، فهمها أهل المنطقة، على أنها ليست أكثر من تطوير للاستعمار في ثوب جديد، يتناسب مع ثلاثة تغييرات كبرى بعد الحرب العالمية الثانية:1- تأسيس إسرائيل على أرض فلسطين العربية. 2- بدء تفكيك الاستعمار الأوروبي بعد إنهاك القوتين العظميين فرنسا وبريطانيا. 3- صعود القوة العظمى الأمريكية. وانقسمت قوى الشرق الأوسط بين تيارات محافظة تقليدية، وأخرى ثورية وتقدمية، سارع البعض مثل تركيا وإيران إلى الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات والتبادل الدبلوماسي، كما سارعوا إلى الانضواء تحت رايات الأحلاف الغربية، وعلى النقيض تقدم البعض لقيادة روح ثورية- تتزعمها مصر الناصرية- فلا تستجيب للاعتراف بإسرائيل، ولا تنضوي تحت الأحلاف الغربية، ثم بطبيعة الحال كان بين الفريقين النقيضين، فريق ثالث يضمر غير ما يعلن، ويعلن غير ما يضمر، وفي ذلك الوقت كان عدد من دول الخليج العربية المهمة الآن لا وجود لها بعد، كانت في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة المستقلة، كانت مشيخات قبائلية تحت السيادة البريطانية، دخلت تحت السيادة البريطانية باتفاق، ثم رحل عنها، ثم منحها الاستقلال باتفاق، ثم حافظ معها على علاقات مودة كامنة وظاهرة، كانت وما تزال. وبعد مرور سبعة عقود، لا تزال توجهات الغرب الكبرى قائمة: ضمان تفوق إسرائيل، دفع جوارها للسلام معها، الهيمنة على المنطقة بأشكال جديدة، الفارق بين اليوم وبين سبعين عاماً مضت، هو أن العرب- ربما دون استثناء- لهم سلام مع إسرائيل سواء معلن أو في الخفاء، وسواء باتفاق مكتوب أو توافق مفهوم، ليس بين العرب عاصمة تعلن موقفاً سلبياً من إسرائيل، وليس بين عواصم العرب عاصمة تعلن مواقف رافضة للهيمنة الغربية، من زيارة أول رئيس عربي إلى القدس في نوفمير 1977 م، حتى يومنا هذا، مايقرب من خمسين عاماً، كانت فترة كافية ليتحول العرب كافة من الصراع مع الحالة الصهيونية إلى التعاون معها، أو الكف عنها أو عدم الانشغال بها سلباً أو إيجاباً.

مصر الناصرية 1952- 1970 م، كانت استثناءً في تاريخ العرب منذ منتصف القرن العشرين، كانت مشبعة بروح ثورية ورثتها عن تراث الحركة الوطنية المصرية الثائر في أربعينيات القرن العشرين، هذه الاتجاهات الثورية كانت قد تبلورت معبرة عن إجماع وطني مصري في حكومة الوفد الأخيرة من خواتيم 1950، حتى مطلع 1951 م، وفيها رفض المصريون الاعتراف والتطبيع، كما رفضوا الأحلاف الغربية، كما- لأول مرة- منذ الثورة العرابية ثم منذ ثورة 1919 م، توقفوا عن نهج التفاوض مع الاحتلال البريطاني لأجل الاستقلال الكامل، وبديلاً عن التفاوض، بدأوا يخوضون غمار الكفاح الشعبي المسلح ضد معسكرات الاحتلال في منطقة القناة، كان كل المطلوب أن ينكسر كبرياء عبد الناصر في هزيمة عسكرية من العيار الثقيل، ثم تكمل الأقدار، وتصطفيه إلى دار الحق، ثم يبدأ تمهيد الساحة العربية لعهد جديد، بدأ بزيارة القدس 1977، ثم بلغ منتهاه مع الاتفاقات الإبراهيمية  2020 م.

عام 1979م عام حاسم في تاريخ المنطقة: فيه اكتملت اتفاقات السلام بين مصر وإسرائيل، فطويت بذلك مصر الناصرية، وما كانت تضمره من تراث الثورات المصرية ضد كافة أشكال الهيمنة والاستعمار، سواء في شكل امتيازات، كما كان قبل الاحتلال البريطاني 1882م، أو كانت في شكل احتلال مباشر من 1882 حتى 1956، أو في شكل هيمنة، ونفوذ كما حدث منذ قيل أن أمريكا تملك 99% من أوراق الصراع في الشرق الأوسط . 

لكن في هذا العام ذاته 1979م ظهرت الناصرية في شخص آخر وفي بلد آخر، شخص مكافيء لوزن عبد الناصر في التاريخ، وبلد مكافيء لثقل مصر في الحضارة الإنسانية، تجلت الناصرية في الثورة الإيرانية، كما في شخص الخميني، كما في مجمل السياسات الخارجية للنظام الثوري الصاعد.

 لعبة درامية من لعب التاريخ ، مصر السادات أخذت مكان إيران البهلوية، كما أن إيران الخميني أخذت مكان مصر الناصرية. وكما كانت القوى العربية التقليدية المحافظة ضد الناصرية في الحقيقة، ولو أعلنت غير ذلك في الظاهر، فكذلك وقفت القوى العربية ضد إيران الخمينية. عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار- في أيامهم الأولى- كانوا يركزون تفكيرهم في بناء مصر من الداخل، ووضعها على طريق التنمية، ولم يكن من أهدافهم الحرب مع إسرائيل، كان عبد الناصر ورفاقه على خطى النظام السابق عليهم الذي عقد هدنة مع إسرائيل 1949م، كانت أشبه باتفاق سلام دائم، غير أنه فقط كان ينقصه التبادل الدبلوماسي وتطبيع العلاقات، بعد حرب 1948م، لم تكن مصر الملكية، دون دخول حرب جديدة مع إسرائيل، وكذلك كانت كافة الدول العربية المحيطة بإسرائيل كلها، دخلت حزام الهدنة، ولم تضمر نية لحرب جديدة مع إسرائيل، وكذلك كان الضباط الأحرار في أيامهم الأولى، أجندتهم بناء مصر من الداخل، دون السعي لحرب، ودون الطموح لدور إقليمي، فقط حدث التحول عندما: بادرت إسرائيل بالعدوان على القوات المصرية في قطاع غزة 1955م، ثم تأكدت مساعي إسرائيل للتسلح بصورة تنبيء عن استعداد لشن حروب جديدة، ثم بزوغ زعامة عبد الناصر على المسرح الدولي في مؤتمر قمة عدم الانحياز في باندونج 1955، ثم العدوان الثلاثي على مصر واحتلال إسرائيل كامل تراب سيناء 1956م، هنا بدأت تتبلور الناصرية ليس فقط كقوة تحرر وطني في الداخل، لكن كقوة تحرر وطني، حيثما وجد استعمار سواء في الإقليم والعالم. من هذا التاريخ تجلت، ثم تبلورت مصر الناصرية التي أقلقت العرب المحافظين، ومعهم إسرائيل ومعها الغرب، ثم أمريكا.  إيران الخمينية كانت ذات روح ناصرية مع فارق، أن عبد الناصر ظهر فجأة مع نجاح انقلاب عسكري منتصف ليلة صيف، لكن الخميني كان له تاريخ ثوري علني ميداني منذ شبابه الناضح في مطلع الستينات حتى نهاية السبعينيات، الخميني له سجل ثوري يزيد على عشرين عاماً، أنضجته تجارب الكفاح ضد البهلوية في الداخل والخارج، ثم جاء بثورة شعبية قادها باقتدار، أشبه ما يكون باقتدار سعد زغلول في قيادة ثورة المصريين في 1919 م، عبد الناصر انتظر سنوات حتى يتخذ سياسة علنية مضادة لإسرائيل، الخميني من اللحظة الأولى أغلق سفارة إسرائيل، وقطع العلاقات، ودشن عهداً ناصرياً جديداً- بوجه فارسي، وليس عربي وروح إيرانية، وليس مصرية، ومزاج ديني زائد، لم يكن عند عبد الناصر الوطني القومي.

عبد الناصر، ثم الخميني، كلاهما كان يمثل روح الأمة- عموم الأمة- في مواجهة الصهيونية والغرب وأمريكا، كلاهما كان ضميراً يحفزه العدل ونداءً تحركه الكرامة، قبل أن يكونا رجال سياسة واقعية محترفة تحسبها بالورقة والقلم، وتضع الأمور في كل نصاب محتمل لها، بل الإقدام على التحرك خطوة إلى الأمام، عبد الناصر برز صوتاً عربياً غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث، قدرته على الإلهام داخل مصر وخارجها، تجاوزت الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، لكن تظل إمكانات مصر المادية بعد خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال أقل بكثير جداً من قوة الإلهام التي أوحت بها كارزما عبد الناصر، كما كانت أقل من أفق الطموحات التي رفع القلوب والعقول إليها، عبد الناصر نفسه كان على وعي بهذا التناقض: بين الإلهام والواقع، كما بين الطموح والإمكانات، كان على يقين أنه لا يستطيع إزالة إسرائيل؛ لأنه على يقين أن إمكانات العرب في موازين الفعل القتالي العسكري محدودة بالمقارنة مع إسرائيل التي يضمن لها الغرب وأمريكا التفوق، وقد اعترف هو بذلك عقب هزيمة 1967 التي قضت على نموذجه في القيادة العربية، ومهدت لأجيال جديدة من القادة العرب على النقيض تماماً من الناصرية الثورية. الخميني لم تكن له امتيازات عبد الناصر، فاللغة الفارسية حاجز، وشيعية المذهب حاجز، ودينية الثورة حاجز، المخاوف منه كانت ظنونا أكثر من حقائق، فلم تكن إيران تستطيع تصدير ثورتها، إلا مجرد كلاماً حماسياً، كما لم تكن – واقعيا- تهدد أمان جيرانها ، كما لم تكن نووية ، كما لم تكن قد طوقت جوارها العربي، لم يكن شيء من ذلك حدث، ورغم ذلك تم اعتبارها خطراً على الجميع: إسرائيل وجوارها العربي والعالم، فأعجلوها بحرب أقرب من لمح البصر من أقرب جوار اصطف فيها العرب والغرب، استنزفت إيران عشر سنوات، وخرجت منها منهزمة منكفئة على ذاتها، تعيد ترميم جروحها وتضميد أوجاعها، فقد أنهكت الحرب قواها، حتى قام العراق بغزو الكويت 1990؛ فانقلبت آلة التاريخ، فأصبح العدو الذي يهدد دول الخليج العربية عدواً عربياً، وليس فارسياً، كان العرب في قمة 1964م يرفعون شعارات ثلاثة: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض. ثم في قمة فاس 1981م، حددوا مصدر الخطر عليهم في إيران، ثم بعد غزو العراق للكويت، تبين أن بعضهم خطر على بعضهم، ثم بعد الربيع العربي، دخلت أهم بلدانهم في أزمات داخلية حادة بين استقطاب أو انقسام أو فوضى أو حرب أهلية. بأي معيار لم يكن للخوميني تأثير عبد الناصر في العالم العربي، ولم تكن لثورة إيران ولا إيران تأثير كبير في العالم العربي، ناهيك أن تمثل خطورة حقيقية على أي دولة عربية من الثورة عام 1979 حتى غزو العراق للكويت 1990، ثم حتى غزو أمريكا لأفغانستان 2001م، ثم غزو أمريكا للعراق 2003، من هذه اللحظة فقط، من هذه الغلطة الأمريكية فقط، بدأت إيران التي نعرفها اليوم. 

من غزو العراق 2003، حتى طوفان الأقصى 2023، عشرون عاماً هي الأخطر في تاريخ إيران وفي تاريخ الشرق الأوسط.

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.