حاول الكثيرون على مدار 4 سنوات مواجهة إصرار الدولة على هدم جانب من جبانات القاهرة القديمة في الإمام الشافعي والسيدة نفيسة دون جدوى، وشكلت الحكومة لجنة، اختارتها بنفسها وبمحض إرادتها، لتقول رأيها في المحور الذي تنوي بناءه على أنقاض هذه المقابر، وقالت اللجنة، إنه غير مفيد، وإنه في النهاية سيوفر دقيقتين فقط، ويوجد بدائل له، ومع ذلك اعتبرت “البلدوزر هو الحل”؛ لتستكمل مسلسل هدم المقابر الأثرية والقديمة.

وقد ضمت هذه المقابر أسماء عظماء في التاريخ المصري من محمود سامي البارودي، إلي حليم باشا، والتي قال عنها المقريزي، “إنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها، ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحُجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليها، تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها، كأنه حائط من ورائها”.

وقد ضمت مقابر الإمام الشافعي قبل الهدم حوش الباشا، وتوفيق و”البرنسيسات”، وكل باشوات عصر محمد علي، وأعيان مصر ورموزها الثقافية في مجالات السياسية والفن والشعر والأدب، حتى أصبح عندنا في بداية القرن العشرين تجمع هائل، مساحته خمسمائة فدان، وطوله ١٢ كم من الشمال للجنوب، ويعتبر مكونا أساسيا من الصورة البصرية لمدينة القاهرة، ويضم ٧٥ أثرا، مسجلا من كل العصور، تمثل ١٥ ٪من الآثار السليمة، وتعبر أيضا عن استمرار ثقافة الاهتمام بالموت والمقابر منذ قدماء المصريين.

ومع ذلك، فإنه لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر تهدم قباب مملوكية تاريخية، شكلت الهوية البصرية لمدينة القاهرة أهمها “مستولدة محمد على باشا”، التي انتشرت صورها على مواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت حزنا عميقا لدى كل من لديه ليس فقط غيرة وطنية على تاريخ البلد، إنما “سواء نفسي” وفطرة سليمة، بحيث لا يمكن أن يقبل، أن تهدم مقابر عمرها مئات السنين لصالح “بيزنس” المحاور والكباري، وبيع الأراضي في مشهد مؤلم، وغير مسبوق في تاريخ مصر المعاصر.

والحقيقة، أن ما جرى في الإمام الشافعي، يدل على حجم المراوغة والكذب الذي تعامل به الحكم مع كل من دافع بنزاهة عن ملف الآثار في منطقة الإمام الشافعي، وغيرها من المناطق، وأن تشكيل اللجنة الحكومية كان مجرد ستار؛ لتهدئة الرأي العام، حتى اختيار الوقت المناسب؛ لتنفيذ الجريمة الكاملة.

إن خطورة ما يجري، أن الدولة فعلت عكس ما أملاه “الضمير المهني” للجنة التي شكلتها، وهو مشهد في غاية الخطورة؛ لأن دلالاته لم تعد، كما كان يحدث في السابق، أن نظمنا السياسية كانت تبحث عن مؤيدين “يطبلون”، أو ينافقون في السياسة، وكان ضررهم أساسا في المجال السياسي، إنما باتت المشكلة في تدمير القواعد المهنية الطبيعية لأي مهنة؛ فالمطلوب وجود معماري يقول على الأثر، إنه غير أثري، والمقبرة التاريخية غير مهمة، ويحول القبح المعماري إلى إنجاز، ويجعل هدم الجمال والمباني التاريخية تطويرا، ويصبح بيزنس الكباري فوق الجميع، ويطلب من الطبيب والمعلم والمهندس والمحامي، أن يقول ويفعل عكس أبجديات العلم والضمير المهني، لا أن ينافق فقط النظام القائم في السياسة.

صادم هذا الاستهداف المستمر لجوانب مختلفة من تاريخ البلد تحت مسمى “التطوير”، ومفرح أن يكون رغم كل حملات التجهيل والتخويف، أن يبقى هناك ضمير جمعي حي من المصريين، رفض استهداف تاريخه وقاومه في ظل ظروف شديدة الصعوبة وقيود كثيرة على التحرك المهني، والفني والأخلاقي بعيدا عن السياسة وأرضية التأييد والمعارضة.

إن الحفاظ على الهوية البصرية للمدينة يعني تلقائيا الحفاظ عليها، كما هي وتجديدها وتطويرها، لأنها عبارة عن لقطة أو صورة تترسخ في ذاكرة الناس عبر الزمن، فلا يفترض أن تشوه هوية القاهرة البصرية في منطقة جبانات الإمام الشافعي بمباني جديدة، فما بالنا بهدم جانب منها، أو تشويه منطقة الأهرام وأبو الهول التي تشكل أبرز هوية بصرية لمصر، ببناء كوبري بجوارها، ولا يمكن تخيل أن يبني أحد ناطحة سحاب أمام برج إيفل في فرنسا، تشوه الهوية البصرية لباريس وكذلك مع ساعة بج بن في لندن، و الأكروبوليس في أثينا وصخرة الروشة في بيروت ومسجد الفنا في مراكش والسلطان حسن في إسطنبول، وقس على ذلك مئات الصور لمختلف مدن العالم التي شكلت هويتها، وكانت دائما مصدر فخر واعتزاز وطني، وعنصر أساسي في جذب السياحة والأموال أيضا.

والحقيقة، أن تفسير ما يجري في مصر من “تطوير عكسي”، ومن استهداف متعمد لكثير من المواقع الأثرية والتاريخية، جعل العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، “تشطح” بعيدا في تحليلاتها لأسباب ما يجري، في حين أن كثير من “التفسيرات العاقلة”، اعتبرت أن هناك جهلا رسميا بقيمة الآثار وأهمية المباني التاريخية، يعززه حالة من التكالب غير المسبوق على بيزنس  الطرق والكباري الذي حقق أرباحا خيالية لشركات كثيرة، وأن هناك شريحة من المقاولين والعمال والموظفين يعملون فيها، وهو ما اعتبره البعض طريق لمواجهة البطالة، وبالتالي باتت نظرية “كوبري لكل مواطن” و”محور في كل مكان” مبررة لدي هؤلاء لتشغيل الناس، وهناك من يقدم تفسيرا معقدا لما يجري، ويعتبر أن الحكم الحالي أو عصر الجمهورية الجديدة يرغب في تثبيت ليس فقط هوية نظامه السياسي والاقتصادي، إنما أيضا العمراني بخلق هوية جديدة للقاهرة ومختلف المدن المصرية وإحداث “قطيعة بصرية” مع كل الصور التي توارثتها الأجيال عن شكل القاهرة التاريخية، وهو أمر ينسي أن الهوية الجديدة في العالم المعاصر تختلف عن “هوية” الهدم والإحلال الذي عرفه العالم في القرون الوسطى، وأن كل من أسسوا في عصرنا الحالي شرعيتهم “العمرانية” على بناء هوية جديدة لمدنهم، فعلوها في الصحراء وفي الخلاء أو الأراضي البكر، وفي نفس الوقت، حافظوا على كل ذرة من تراب مبانيهم وتراثهم القديم وجددوها.

قد يكون التفسير أن هناك تحالفا بين الجهل والبيزنس مع أسباب أخرى، اعتبرت أن الإنجاز في بناء جديد، يوصف عادة بالأعرض والأضخم والأطول، مع أن في عالمنا المعاصر لم تقم دولة واحدة بإزالة أثر أو مبنى تاريخي، يمثل جانبا من هويتها التاريخية إلا في مصر، وأن الدول التي ليس لها تاريخ يذكر، “تشتري تاريخا” كما يقال، أما ما جرى في السنوات الأخيرة في أكثر من منطقة داخل مصر، كان كارثيا بكل معنى الكلمة، وصدم الرأي العام وفطرته السليمة، وستكون آثاره وخيمة على المجتمع وعلى المستقبل.